نصوص أدبية

(الاحمر) مطلوب حيا او ميتا*

hamid lafta في (14) رمضان الثامن من شباط الاسود 1963.

مخلوق مخيف رغم صغر حجم رأسه، الا انه مزروع بعيون حمراء تقدح شررا بكل الاتجاهات، تدور في محاجرها كما تدور شعلة لهيب حارق يترصد عدوا مجهولا، مكشرا عن انياب طويلة مخلفة ورائها شفتين تخثرت الدماء عليهما، له كفوفا سوداء كانها (فالة) صيد، تخرج من كل مكان في جسده كاقدام اميبا الزحار، مئات الارجل كغابة من رماح محروقة، متقدما قطعانا من جنسه، لازالت تخرج باعداد غفيرة كما تخرج الصراصر والعقارب من فوهات المجاري والمياه الثقيلة في الساحات والشوارع والازقة والبيوت، من دورات المياه في الجوامع والمساجد والاضرحة المقدسة ودور البغاء والملاهي والبارات، والمدارس والجامعات، من كروش الاقطاعيين والمرابين، وجيوب المتسولين والمتسولات، ما عدى المجانين والكلاب السائبة لم تنتج مثل هذه المسوخ الهائجة، في طريقها تلتهم الاشجار وتلتهم الزهور والطيور، يتصحر كل مكان تمر به هذه القطعان، تنطفيء الاضوية تتفجر المصابيح تختفي الالوان تلوذ تحت معاطف السواد، احرقوا آلات العود والكمان وكل الشبابات، حطموا الدرابك، والربابات، ما عدى طبول ضخمة مصنوعة من جلود المطربين الذي لازالت تنز دما كلما لامستها قضبان الطبالين، اصوات تمزق طبلة الاذن البشرية تشبه العواء تطالب برأس اللون الاحمر، احرقوا الاربطة والمسابح، واطنانا من الاقمشة الحمراء والمزركشة، امروا باستخدام قلم الفحم بدل احمر الشفايف، الاسود بدل الاحمر لتجميل الخدود واصباغ الاظفار، مزقوا اللافتات ذات الخطوط الحمراء، حطموا شارات المرور الحمراء، اختفت علامات الممنوع او الوقوف او منبهات الخطر، شب حريق هائل في اكداس الكتب الحمراء...

يا الهي مالذي يجري انهم يتقدمون نحو الدار تتقدمهم جرافات وسلالم استبدال الاضوية الكهربائية المحمولة للقفز على سطوح الدور والعمارات وفوق الاسواق، انهم يقتربون من دارنا المطلية باللون الاحمر من الخارج، اصابته رعشة من الخوف والهلع، يا الهي مالعمل اغطية بطانيات حمراء ساموت بردا في هذا اليوم الشباطي المثلج ان احرقوها، كاد يجن فما العمل كيف له باطفاء الحريق فصنابير الماء متجمدة تماما، اصابه الرعب عندما قرر الاستعانة بمطفأة الحريق انها حمراء كالعادة ذا ت لون احمر!!!

لو انهم ضبطوه وهو ممسك بها سيقتلونه فورا، انه اخطر من حامل مدفع رشاش فلون الرشاش اسود.... لعن في سره من صبغ مطافئ الحريق بالاحمر ولم يطلِ البنادق والرشاشات والمسدسات باللون الاحمر... رغم خوفه ضحك في سره من غباء (الحمران) الا كان الجدير بهم ان يطلوا اسلحتهم الكلاشنكوف واخواتها باللون الاحمر....البنادق الامريكية سوداء اللون كالافاعي / ماذا عساه ان يفعل؟؟

الجموع تقترب اصوات الانفجارات تهز بغداد هزا، الاذاعات تستصرخ القطعان وتحثهم على قطع راس الاحمر واقتفاء اثره في كل مكان.....

يا الهي من اين لي بقميص اسود، قمصاني كلها حمراء او بيضاء او زرقاء اللون... لعن الله ذوقي.....

الابيض لا ليس هو المخلص فهو يضمر اللون الاحمر وهم يعرفون هذا جيدا... الازرق عليه شبهات كبيرة بتواطئه مع الاحمر انهم يعتبرونه متماهيا مع الاحمر

نعم انها هي المخلص الوحيد رغم انها لم تنجح في تخليص نوري السعيد... لالا انه كان يجب ان يرتدي قميصا احمر آنذاك ليضمن الخلاص فقد كان غبيا رغم ذكائه المشهود له به...... دعك من هذه المحاكمة السخيفة وتدبر امرك الآن...

ولكن من اين لك بالعباءة السوداء، زوجك وأمك وشقيقاتك كلهن سافرات ولا يمتلكن عباءة... الان فهمت مدى ذكاء وفطنة وبعد نظر اهل العمائم، واعمامي في الريف واجبارهم النساء بارتداء العباءة السوداء في مثل هذه الظروف الا تبا للرصافي وسحقا لميميته القاتلة (اسفري يبنت فهر فالسفور للناس صبح والحجاب ليل بهيم).

تعال يا ابن..... لترى عظيم فائدة الليل البهيم!!!!

ضحك علي بملء منقاره الغراب الذي كان يحوم فوق سماء داري عندما قرأ سري وانا اتمنى ان اتحول الى غراب لانقذ جلدي من السلخ، مذكرني كيف كنت اناصبه العداء منذ صغري فغالبا ماكان هدفا لمصيدتي اينما اجده او المحه عندما كنت طفلا، وكيف اتشاءم منه خلال شبابي وبلوغي وقد كنت في هذا منسجما تماما مع رأي جدتي وجدي رحمهم الله..... قال لي مستهزئا بي، ان تستجند بعنادلك وبطيور حبك المدللة، او ان شأت تحول الى عنز بري وانتظر سكين القصاب!!!!

حاولت ان احصل على شربة ماء لأبل بها ريقي فقد تخشب فمي من شدت الخوف.....يا الهي الماء جامد لابد من تسخينه حتى يسيل.... وانا افتش عن عود كبريت اصابني الفزع وانا ارى سلة كبيرة من الطماطة الحمراء القانية وكم تمنيت لوانها انقلبت باذنجان في مثل هذه الساعة السوداء.. انظر في المرآة فارى وجهي عبارة عن قطعة لحمية حمراء، الذي اعلمه ان الخوف يجعل لون الوجه اصفرا وليس احمرا كما انا الان..... آه ايها الاحمر......

النهر نعم الى النهر... افردت اجنحتي وطرت محلقا في سماء بغداد حيث ارتال الدبابات وقطعان (الحرس القومي).... هناك جثث مبعثرة في الطرق والساحات... الاقزام في كل مكان...الغربان غطت نصب الحرية فظهر كتابوت اسود....

هبطت عند ضفة دجلة في منطقة تبدو خالية من الحركة.... ما ان حدقت في النهر حتى عدت ادراجي مرعوبا.... انه نهر من دم....توجهت نحو النهر طوابير الاقزام... مطلوب راس النهر انه احمر انه احمر... صدر امر الاعدام انهالت عشرات الالاف من الاطلاقات النارية صوب النهر، اخذ يغلي من حرارة الرصاص والبارود...كلما علا صوت الرصاص علا صوت دجلة بالضحك هازئا بنيران وهستيريا الاقزام...اخذت تسبح على سطح الماء الاف الصور الحمراء فتنهال عليها زخات الرصاص، تغطس ولكن سرعان ما تظهر ثانية تتحدى الرصاص، فيصاب الاقزام بهستيريا الرصاص الى الحد الذي القى البعض بانفسهم في النهر محولا القاء القبض على الصور والاوراق والكتب الحمراء، خاب ظني بالاغتسال في النهر، قررت ان احلق صوب الفرات.....

سقطت من على سريري مرعوبا من هول هذا الكابوس المرعب، هدأ من روعي بسملات زوجتي وصوت الطبال في الشارع وهو ينادي:-

سحور سحور ياصيام اكعدوا اسحروا دم دم دمدم).

 

*مقطع من مشروع روايتي (محطات كشموش)

 

حميد الحريزي

 

في نصوص اليوم