نصوص أدبية

كوبيا

saleh alrazuk رفعت رأسي عن الورقة وتساءلت كيف أبدأ؟

كانت هذه أول مرة أكتب فيها رسالة. ما بالك لو أنها للخطيبة. وطال غيابي عنها لستة شهور.

كنت في الخندق أنتعل البوط وأعتمر الخوذة.

لقد بدأت حفارة بتجهيز هذا الخندق . ثم انكسر الكير فتابعنا بالفؤوس.

والآن لوألقيت نظرة على الخندق تجد أمامك جرحا مستطيلا في الأرض.

كنا نعمل عليه في الليل ونرتاح في النهار حتى لا نكون هدفا للأعداء.

ولكن ما الفرق؟.

حتى في طور الراحة ونحن على أسرة الحديد نشبه أكواز الذرة وهي فوق الفحم. نحترق ببطء..

***

رأيت في الطرف المقابل خزان مياه سعة صهريج أو إثنين. ومرفوع على قوائم بطول ٢٠٠ م، ولكن للأسف كان مثقوبا بالرصاص.

ولا شك أن المياه تسربت منه وسالت بشكل دموع على الأرض.

لا توجد خسارة في أن تسقي أرضك.

ولكن ليس بهذه الطريقة المؤسفة.

ولاحظت عند أقدام الخزان بعض النباتات تنمووترفع رأسها باتجاه الشمس. ربما كانت بعض البذور مدفونة في هذه الارض وأنعشتها المياه.

كانت في معظمها من نبات الآس الذي نتركه على الأضرحة في المقابر. نباتات بأوراق خضر ورؤوس عنقودية لونها أصفر. وبينها وردة جورية حمراء، وتلمع كأنها نقطة دم...

أحيانا أتخيل أنها بذور أرواح الأموات. النفوس الميتة بعد الدفن تعود إلى الحياة. بشكل زهرة ذكية الرائحة. أو فراشة زاهية الألوان.

هل انت معي؟..

أن روح الإنسان أجمل من صورته.

***

قطعت سلسلة أفكاري زمجرة مضخة تسحب الماء من باطن الأرض. نظرت باتجاهها. ورأيت عمود الدخان يندلع من البستون بشكل غمامة رصاصية كلما دارت المسننات.

كانت هناك بساتين لأشجار مثمرة. ماذا بقي منها اليوم؟.

أشجار تشبه فزاعات العصافير.

جذوع ملتحمة بالأرض وفروع نحيفة بلا أوراق.

ربما يحاولون تنبيه البراعم النائمة. أنت لا تعرف كيف تقاوم الأشجار خطر الفناء.

تحسب أنها ماتت ولكنها في الواقع تكون متحفزة. لو ألقيت نظرة على إبط كل غصن ستشاهد برعما خامدا ينتظر فرصته.

***

عدت إلى الرسالة. ماذا عساني أكتب فيها؟.

توقفت يدي وهي تمسك بقلم الكوبيا الأزرق. ثم بللت رأسه المسنن بأطراف لساني واقتربت به من الورقة.

وتذكرت أنه الشيء الوحيد الذي بقي من خليل.

الآن أستعيد في ذهني صورته بوجهه المشرق. وقلمه خلف أذنه.

كان يبريه بشفرة الحلاقة. ولا يستعمله إلا لترقيم حاجياته في المهجع. يرقمها أو يرسم عليها إشارة. نجمة. علامة ضرب. أحيانا يكتب بهجاء مغلوط اسمه: خاليل.

ولا تزال الطريقة التي مات بها محفورة في رأسي.

كنا في الخنادق والسماء تمطر علينا جرات الغاز. القذائف المعروفة التي تسبق الهجوم.

ثم سمعنا صوت الهاتف الميداني. فانبرى خليل للرد. ولكن يبدو أنها خدعة. ما أن رفع السماعة حتى انفجر الجهاز بوجهه.

وعلى الفور طار قلم الكوبيا من وراء أذنه وسقط على الأرض.

أما هو فقد التهب كل رأسه ورأيته يرفع يديه ويغطيه بهما ويعوي من شدة الألم المبرح..

ثم سقط في الخندق.

مشهد مروع.

استغرق عدة دقائق لتخمد أنفاسه. ثم تطايرت من رأسه خيوط الدخان. كأنه عقب سيجارة ألقيت بها في الرماد.

***

أخرجت طرف لساني لأبلل به رأس قلم الكوبيا وأتابع..

ولكن ما الفائدة؟.

حتى لساني جاف مثل القلم.

لا يوجد حولنا غير الجفاف.

يباس في الأرض. وفي السماء. ويباس في المشاعر.

وضعت القلم خلف أذني. مثلك يا خليل. وطويت الأوراق في جيب البدريسة. عند الصدر وفوق القلب.

كان وجيب قلبي خافتا.

لا يمكنني سماعه ولو شحذت سمعي.

ورنوت للمسافة البعيدة التي تغرقها الشمس بسعيرها، ولمحت مدرعة، بحجم مضخة سحب الماء..

فوقها مربع أسود يخفق في وسط عاصفة من الغبار.....

 

صالح الرزوق

تموز ٢٠١٥

 

في نصوص اليوم