نصوص أدبية

مقهى النقائض

hamed-fadil سورٌ، جُدُرٌ، أجذاعٌ، قصبٌ، حُصُرٌ.. كوخٌ شُيد بمثابة مقهى، بين الشط وبين البستان. حيث الجسر الحديدي المعلق فوق مطرح النهر المزنر بالنخل، العنب، التين، النبق، التوت، الرمان. يسمح للعابرين بسلق رواد المقهى بالنظرات، والمقهى الذي هو واحد من مقاهي الصوب بلا لافتة، أو عنوان .. كان أبي يسميه مقهى النقائض. وكنت أسميه مقهى عبود، نسبة الى اسم مالكه عبود، الرجل العجوز القادم من الحلة، هو وزوجته الخبازة زهرة الحلاوية. زهرة تلك لم يبق الدهر لها من شذى، لا تُرى عادة وحدها دون فوزي، الكلب القزم المختبئ في فروة من الشعر الأبيض، فهو اما يتبعها وهي تدب في دروب القشلة، أو يسبقها نحو المقهى، أو يبسط قبالة التنور ذراعيه بالوصيد، وأحيناً يَحْرِنُ قدام مطعم ناصر لبيع الكبدة والمعلاق.. رأيت تلك المقهى يوم كانت مَعْلَماً من معالم صوب السماوة الصغير، وأرها الآن في صورة من صور العلبة، ثم أرها في ثمالة كأس الذاكرة.. أعترف أني أدركت موائد مساءات سكارى المقهى، العامرة بالعرق والبيرة والمزات، وأدركت تخوت صباحاتها المكتظة بعمال المَسْطَرْ، الذين يحتسون الشاي وهم يتناولون إفطارهم من الخبز الحار والقيمر الذي تبيعه الدبيات، وحين يُعِدُ الضحى للشمس متكأً، أرى المسنين، المتقاعدين، المحاربين القدماء، يحملون هموم أمة العرب على أكتافهم، ويلقونها في مقهى النقائض، أو مقهى عبود، يخنقهم السعال وهم يدخنون اللفائف، ويمسحون بيشاميغهم ما يسيل على ذقونهم من لعاب، يروحون بمهفات الخوص وهم يخوضون في تحليل أخبار راديو لندن التي استمعوا لها في أثناء الليل.. يعيدون عبارات جمال عبد الناصر، يلعنون أمريكا ويمتدحون الاتحاد السوفيتي، ثم يطلقون آهات نكسة حزيران.. شنان الحلاق المتجول يدخل المقهى في الظهيرة وهو يحمل في يمناه حقيبة تحتوي على عدة الحلاقة وفي يسراه (التنكة) التي يجلس عليها من يرغب بحلاقة رأسه أو ذقنه.. وعبود عند الضحى يجالس خير جليس على رأي أبي الطيب المتنبي.. ينعزل كالعادة في ركنه، ينأى عن اللغو والثرثرة، ليدخل في حضرة الأدب العالمي، فكم من ضحى قضياه معاً هو والكتاب بين يديه تحت أكبر نخلة معمرة في بستان المقهى، تلك البرحية المخضرمة التي عاصرت بني عثمان والانكليز والمملكة.. ينهل من عالم تولستوي، أو دستوفسكي، أو هيكو، أو  دكنز.. يقتنص الكلمات من خلف نظارتيه الطبيتين السميكتي الزجاج مثل كعوب استكانات الشاي، وأظن أنه لن يرفع عينيه عن سطور الكتاب حتى لو احترقت المقهى.. وعبود في الظهيرة يقيل، وفي الظهيرة أيضاً تتحول المقهى الى حانةٍ رخيصةٍ، بعد أن يغادرها الى البيت عبود، حيث يأوي إليها الثلاثي المدمن عطا الله، عباس راشد، وهاشم سعيد، يشاركهم صناع المقهى بالشرب والرقص والغناء في مأمن من عبود الذي لا يتخلى عن القيلولة لا في الصيف ولا في الشتاء، ثم تتحول الى ورشة للوشم بعد مجىء الواشم حسين كسكين وهو يحمل حقيبة صغيرة تحتوي على الإبر والأحبار التي يستخدمها بعملية الوشم وهو فنان فطري له القدرة على الرسم والكتابة بالخط العربي على أيدي المستوشمين وحسب رغبة المستوشم كأن يرسم عقرباً على قفا كف المستوشم الذي غدر به صديقه ويكتب تحتها عبارة (الصديق عقرب) أو يرسم أسدا يحمل سيفاً على ذراع المستوشم الذي يدعي (الشقاوة) ويخط تحته عبارة (ابتعد عني خمسة أمتار)، أو يكتب كلمة الحياة على الذراع اليمنى، وكلمة الموت على الذراع اليسرى، كما فعل بذراعي مجيد أبن خالي الذي هدده أبوه بالطرد من البيت، أو إزالة الوشم الذي استدعت إزالته نقطتين من ماء النار الذي تسبب بإصابة ذراعيه بالتهاب، تطلب الشفاء منه عشرة أبر من البنسلين. كما ضحكنا يومها من مجيد الذي كان يخاف من زرق الإبرة وهو الذي تجرع ألم (التيزاب) الذي أحرق ذراعية.. عصراً أرى وأنا أمر بالمقهى جلاساً من المثقفين السياسيين ومن أدعياء الثقافة السياسة وهم يقيمون على تخوت المقهى حكومات، ويسقطون حكومات. حتى إذا صَرَّتْ الشمس صرتها ومضت تاركة وشم آثارها على أفق المغرب، هرعت طيور السماوة الى وكناتها قبل أن ينذرها الليل بوقع حوافر جواده الأدهم، وتثاءب النهر مثقل الموج يمشي الى الشاطئ. ونام النخيل تلفع بردته وانزوى في الظلام.. انتشرت الموائد والكراسي في عتمة البستان، وتغيرت المقهى عنواناً وجلاساً لتمسي نادياً ليلياً على مرأى من القمر السماوي الخجول.. ومقهى عبود يناظر مقهى حمزة فرج، لكنهما لا يتشابهان، رغم أن كليهما يطلان على الفرات العتيد، فالأول يقع بحذاء الجسر الحديدي الجديد، والثاني يقع بحذاء الجسر الخشبي العتيق. رواد  مقهى عبود هم من البسطاء الحالمين بالحرية والكرامة والسعادة، ورواد مقهى حمزة هم من العصملية والرسميين وبقايا اليهود، وهم مَنْ يملكون الحرية والمال والسعادة. في مقهى عبود تُسمع عادة أغاني داخل حسن، جواد وادي، وعبد الواحد جمعة، وفي مقهى حمزة تُسمع عادة أغاني عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش.. المقهيان لا يشبهان بقية مقاهي القشلة، كمقهى الشيخ هادي المختصة بالفلاحين ومربي الجاموس، أو مقهى كاظم المترفة المختصة بأقارب المقيمين في الكويت، أو مقهى كامل المختصة بالشقوات والفارين من الجيش، أو مقهى جميل المختصة بأغاني الهجع.. أتحدى كل مَنْ كان يمر من أمام مقهى جميل ولا يتخبط في سيره، كما أتحدى كل من يجلس في مقهى كاظم ولا يقرأ لوحة التعليمات (البصاق ممنوع، غسل الرجلين من تراب الطريق ممنوع، وضع الاستكان على الحصيرة ممنوع، الدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله)، أو مقهى إسماعيل المختصة بالسواق المحاذية لخان حرز المشهور بإطلاق غازات معدته دون حرج والخان هو حظيرة تأوي الخيول والحمير التي يمتطيها الأعراب القادمين من الأرياف المحيطة بالمدينة، وعن حرز هذا يروي الحاج ذياب المعروف في خيمة جدي برواية الحكايات الطريفة هذه الحكاية.. يقول الحاج ذياب: (أن بدوياً نزل السماوة لشراء عتاد لبندقيته، فدله أحد الظرفاء على حرز الذي كان يجلس في الضحى قدام باب الخان، فجاءه البدوي وسلم عليه وطلب أن يبيعه كمية من الاطلاقات. عرف حرز أن حسون بائع (الشربت) هو من أرسل البدوي، فرحب به وسأله: أتريد الرصاصات من نوع الكرخانه أم الشداد؟  فأجاب البدوي (أرني نموذج من الأثنين) فما كان من حرز إلا أن يطلق بوجه البدوي شريطا مدوياً من الغازات التي جعلت البدوي يولي هارباً).. كانت القريحة في ذلك الزمان الجميل تتلمس طريقها في الشعر الشعبي، فشجعني الأصدقاء على ارتجال أبوذية عن عبود الذي جمع بين المقهى والنادي والثقافة والسياسة والطرب.  فقلت:

(يعبود انطي للكهوه وساعه

وجهد للكاعدين ابذل وساعه

أهي مجلس أمن ساعة، وساعة

خشبها اركام خيمة كاوليه)

وقد علمني عبود احترام الرأي الأخر، إذ لم يزعل عندما طرقت سمعه تلك الأبوذية.

 

حامد فاضل

 

في نصوص اليوم