نصوص أدبية

قبلة سبارتاكوس

hamed-fadil كنت وما أزال مولعاً بأفلام السينما، وقد تجذر هذا الولع في داخلي منذ ذلك المساء الذي شاهدت فيه فلماً صامتاً حُفر على جذع الذاكرة.. حدث ذلك يوم كنا بمدينة الشامية حين جاءت سيارة السينما المجانية المعروفة باسم (سينما بلاش) التي كانت تأتي من بغداد على مُكَثٍ، هُرعت مع أصحابي لنطارد السيارة التي قصدتْ الساحة المكشوفة تحت سماء المدينة المضاءة بثريا النجوم.. هناك توقفت السيارة المتبوعة بمظاهرة من الأولاد والفتيان.. ترجل منها بضعة أشخاص، أنزلوا جهازاً أسود مكوّناً من بكرتين تشبهان عجلتي الدراجة الهوائية الصغيرة، ثبتوه على حامل خاص.. تطوع ولدٌ أكبر مني سناً فأخبرني أن ذلك الجهاز يسمى العارضة، ثم تطوع مرة أخرى ليخبرني أن قطعة القماش البيضاء التي نشرها أصحاب السينما تسمى الشاشة، وعلى تلك الشاشة شاهدت لأول مرة في حياتي رجلاً قصيراً لفت انتباهي بقبعته، شاربه، عصاه، وحذائه.. كان الرجل يتحرك بشكل سريع على قطعة القماش البيضاء. يقوم بحركات مضحكة، يقفز، أو يرقص، أظنه كان يرقص، يتعثر، يسقط، ينهض ليعاود الرقص.. فجأة يقف، يُخرج بطانة جيبي بنطاله، يلوح بعصاه ، يرفع قبعته.. دقائق وظهر رجل آخر، بديناً طويلاً، ولكنه كان غشيماً، أو غبياً، لأنه أصبح العوبة في يد الرجل القصير، الذي أخذ يضربه على قفاه، ثم يدخل من بين ساقيه، ليلتف ويكون خلفه ليركله في اللحظة نفسها التي يستدير فيها الرجل الضخم للبحث عنه.. كان فلماً قصيراً مضحكاً، أعقبته عدة أفلام قصيرة مضحكة للممثل نفسه.. ذلك المساء قبل أن أنام، حكيت لأبي عن مقالب الرجل القصير. أخبرني أنه ممثل مشهور اسمه شارلي شابلن.. حين نجحت إلى الصف الثالث الابتدائي، صار أبي يصطحبني معه إلى سينما الشامية لمشاهدة الأفلام المصرية، أو أفلام رعاة البقر الأمريكية، وقد أعجبت أيما أعجاب بذلك الشاعر الفارس الأسود عنترة بن شداد العبسي، وشاءت الصدفة الحلوة أن يُعرض الفلم نفسه في سينما الشعب في السماوة.. كانت تلك السينما التي ما تزال صورتها الخارجة من العلبة تواً ساخنة في يدي قد بنيت على مساحة كبيرة في طرف المدينة المفتوح على الصحراء، لتكوّن هي وسكة القطار وثكنة الشرطة الخيالة، الحد الفاصل بين نهاية العمران والبر الشاسع، وقد شطرت بنايتها الكبيرة ــ التي تبدو لعين الرائي من بعيد كظهر حوت خرافي ــ إلى قسمين يلتقيان بمدخل واحد، ويفصل بينهما ممر واحد.. النصف الصيفي المطل على سكة القطار، مكشوف لأعين سماء الصيف الزاهية بحيث يُمَكِنُ للقمر والنجوم مشاهدة ممتعة للفلم، ولكنه أحيط بجدران عالية لا يمكن أن تتسلقها أعين الفضوليين الراغبين بمشاهدة مجانية، وقد شُطر هو الآخر إلى نصفين، النصف الأعلى المبلط بالأسمنت، والمؤثث بكراسي جيدة نسبياً، يرتفع بمقدار يُمَكِنُ أنظار الجالسين فيه من اجتياز رؤوس الجالسين في النصف الأسفل، الذي خصصت مقدمته كصالونات للنساء اللاتي غالباً ما يَكُنَّ من نساء العصمليين، والموظفين الكبار، والعائلات المترفة.. بينما خصصت مؤخرته للمشاهدين من الرجال،وقد أُصطلح على تسميته ب (لوج أبو السبعين) لزيادة تذكرته ثلاثين فلساً على تذكرة النصف الأسفل المعروف ب (أبو أربعين) وهو النصف الذي رصت على أرضه الترابية ــ قدام الشاشة الجبسية المبنية على الحائط الجنوبي باتجاه البصرة ــ تخوت حازت على لقب المخضرمة، لأنها عاصرت العهدين الملكي والجمهوري.. يئن خشبها العتيق تحت عجيزات المشاهدين، وقد برزت رؤوس مساميرها الموشكة على التساقط، مما يدفع البعض إلى التقاط حجر لإعادة المسامير إلى منازلها .. يحدث أحيناً أن يرسل الخريف المبكر غيمة استكشافية والصيف لما يرحل ، يباغت بها جمهور السينما، فترشقهم بمزنة سريعة، هي رسالة إلى مسؤولي السينما أنْ انتقلوا إلى القسم الشتوي، الذي هو قاعة كبيرة مسقفة بالصفيح المحدب، والمبطن بالخشب والقماش. وهذه القاعة مقسمة أيضاً إلى قسمين، القسم الأعلى أو (اللوج) الذي خصصت مقدمته للعائلات والنساء ومؤخرته للرجال، القسم الأسفل الذي تنقل إليه تخوت القسم الصيفي ــ بعد أن يضب الصيف خيمته ويرحل ــ لترصف قدام شاشته القماشية المثبتة على الحائط الشمالي باتجاه بغداد.. ما تزال صورة سينما الشعب ماثلة في ذاكرة السماوة رغم انتهاء عصرها الذهبي وتحولها إلى سوق كبير يشبه إلى حد ما سوق الشورجة في بغداد.. كنت قد عرفت طريقي إلى تلك السينما ـــ التي حجزت لها متكأ في صندوق الطفولة ــ عن طريق صديقيّ صباح وعادل، وأبناء خالتي صالح وفالح وعلاوي.. صادف دخولي إليها لأول مرة مع عرض فلم عنترة وعلبة، ذلك الفلم الذي سبق لي مشاهدته في سينما الشامية، وقد أعدت قصة الفلم مئة مرة على مجيد أبن خالي، الذي لم يكن يذهب إلى السينما، ولكنه كان يستمتع بسماع قصص الأفلام، وكان من سوء حظي أن يعجب مجيد، الذي كنت أخشى غضبه بقصة عنترة وعبلة، مما توجب علي إعادة الفلم مع بعض الحركات التمثيلية لإضفاء جو من المتعة، خاصة بعد أن جاءني مجيد يوما ليناولني عرجوناً مقوساً كسيف عنترة، وكان قد لطخ كفيه بسخام القدر، وراح يُسخِّم وجهي مبرراً ذلك باكتمال المشهد.. لقد عاشت سينما الشعب قرابة ثلاثة عقود ذهبية قبل وصول البث التلفازي إلى السماوة. حيث كانت تلك السينما الحوت الذي يبتلع مساء كل يوم وعلى مدى عرضين نصف سكان المدينة.. كان الواقفون في قاعة العرض يشكلون سياجاً بشرياً يحيط بالجالسين.. يبدأ العرض عادة بصورة للزعيم عبد الكريم قاسم، حين تختفي صورة الزعيم من الشاشة.. تبدأ الفترة الإعلانية التي تستهل عادة بدعاية لدهن الطبخ المعروف باسم زبيدة حيث تظهر على الشاشة مجموعة من الفتيات الجميلات وهنَّ يغنينَّ ويرقصنَّ حول علبة دهن كبيرة فنردد معهن الأغنية لكثرة ما سمعنها:

(دهن النبات أصلي زبيدة

شهي ونقي وصحي زبيدة

الله.. الله يا زبيدة.

الله.. الله يا زبيدة)

ثم تظهر سلسلة من مقدمات الأفلام التي ستعرض قريباً، تعقبها استراحة قصيرة، ثم يبدأ عرض الفلم، فتتسمر العيون على المستطيل الأبيض حيث قعقعة السلاح في أيام روما القديمة، أو لعلعة الرصاص في أفلام رعاة البقر، أو أفلام الحرب حيث يغطي قصف الطائرات والمدافع على طقطقة قشور الحَبْ بين أسنان المشاهدين، ولا ننسى الكلام الرومانسي في الأفلام المصرية، أو الأفلام الهندية المكتظة بالفيلة والأبقار والأفاعي، المترعة بالسحر والرقص والأغاني، التي خلعت لقب الهندي على صديقنا باسم، الذي حفظ وغنى الكثير منها رغم عدم معرفته باللغة الهندية.. يحدث أن تنقلب الصورة، أو تجتاز حدود الشاشة أحياناً ، فيعلو الصفير، والصراخ بأعلى الأصوات: (عدّلها أعور) فيعدلها المشغل الذي لم يكن أعوراً.. في تلك السينما تعرفنا أنا وأصدقائي على الممثل جوني وسميلر الذي اشتهر بتمثيله أفلام طرزان، الرجل العاري صديق القرود الذي يتردد صدى صيحاته في قمم أشجار الغابة، وهو يتنقل بالحبال من شجرة إلى شجرة، تتبعه القردة شيتا، وزوجته جيني، وولده بوي.. كنا نقلد صياحه، ونحاكي مغامراته في البساتين المحيطة بمحلة القشلة، وقد كان لأفلام طرزان تأثيراً كبيراً على صديقنا حميد الخزعلي حتى خلعت عليه لقب طرزان الخزاعل.. كان الفلم يعرض ليلتين ثم يستبدل بفلم ثان، وكانت علب الأفلام تأتي من سينمات بغداد إلى سينما السماوة بواسطة قطار الليل السريع، فإذا لم يثر الفلم أعجاب المشاهدين في عرضه الأول، خرجوا من السينما وهم يهتفون (للسريع.. للسريع)، فيقوم المشرفون على السينما في الليلة نفسها بإعادة الفلم إلى بغداد بالقطار السريع.. كنا نعتقد أن قاطع التذاكر محمد أمين، الذي يبدو خلف الشباك وقد تدلى لغده كطائر البجع، هو من يترجم الأفلام الأجنبية. دخلنا ذات مساء فلماً كان عنوانه (الرصاص يلعلع)، ولكنا صبرنا طيلة عرض الفلم بانتظار لعلعة الرصاص، الذي لم يلعلع أبداً، حيث كان بطل الفلم الذي يدرس القانون لا يؤمن بالحلول عن طريق البندقية أو المسدس، وحين خرجنا من الفلم قلنا لقاطع التذاكر ترجم الفلم بشكل صحيح فنحن نعتقد أن عنوانه (الرصاص لن يلعلع) ثم هتفنا في باب السينما (للسريع .. للسريع)، ولأن وسائل الإعلانات الحديثة لم تكن متوفرة في زمان السينما ذاك. فقد أنيطت بفراش السينما قاسم الأحدب مهمة حمل ملصق الفلم على مستطيل من الخشب والدوران به في شوارع السماوة، وقد يتطوع حوذي محب للأفلام، فيحمل الأحدب في عربته التي يجرها الحمار.. يقوم الأحدب برفع ملصق الفلم ليريه إلى الناس المتواجدين على جانبي الطريق، وقد يطيل في عرضه إلى المشاهدين في الجانب الأيمن، فينادي عليه من هم في الجانب الأيسر: (أدره أحدب) .. كنا أنا وأولاد خالتي معجبين بسرعة الممثل جون وَين في استلال مسدسه، وإطلاق الرصاص على رجال العصابة، فكنا غالباً ما نعيد مشاهداً من أفلامه.. حيث يقف جون وَين (أبن خالتي الكبير فالح) مستنداً إلى البار (حِبْ الماء)، يضرب بيده طبق الخوص، الذي يغطي الحب، ويقول بلهجة سريعة مبتسرة: (ويسكي) فيسارع البارمَنْ (أبن خالتي الصغير علاوي) ليملأ (الطاسة) بالماء ويقدمها له.. في هذه الأثناء يدخل رجلا العصابة إلى البار (أنا وأبن خالتي الثالث صالح)، ونطلب من الشريف جون وَين أن يستدير لمقابلتنا: (شريف.. استدر يا شريف)، لكن الشريف لا يكترث، ويظل يكرع كؤوس الويسكي، وعندما نهم بسحب مسدساتنا وهي عادة ما تكون من عظام فكوك الخراف.. يباغتنا الشريف باستدارة سريعة ساحباً مسدسه ليردينا في الحال، ويتركنا على أرض البار (وسط الحوش) جثتين هامدتين يحدق بهما النادل مذهولاً.. أتذكر أني أُجبرت مرة على تغير هذا السيناريو، عندما طلبنا من الشريف أن يستدير، فلم يفعل رغم أنَّأ أعدنا عليه النداء أكثر من مرة: (شريف.. استدر يا شريف) مما اضطرني إلى أن أتقدم منه وأركله بقدمي على قفاه، وأصرخ به منزعجاً: (استدر منيوك)

أَضْحَكَ انثيال الذاكرة الذي أوصلني إلى التلفظ بالمفردة الأخيرة الشيخ كثيراً، وهي المرة الأولى التي أسمعه فيها وهو يضحك بصوت عال. حتى إذا ما هدأ واستقر بادرني بسؤال:

ــ أتدري لماذا يسمي الناس سينما الشعب باسم سينما الاماميين؟

أجبت تلقائياً:

ــ لأنها من ضمن أملاك عائلة الاماميين.

ــ وما الذي تعرفه عن عائلة الاماميين؟

بالتلقائية نفسها أجبت:

ــ لا أعرف أكثر من أنهم يسمون الاماميين لأن جدهم الكبير كان أماماً وخطيباً في الجامع.

للمرة الثانية ضحك الشيخ وقال:

ــ عجباً عشت طفولتك وشبابك، وما تزال تعيش بجوار الاماميين، وأنت تجهل من هم ومن أين جاءوا؟

ضحكت أنا أيضاً، ولا أدري أضحكتُ مجاراة للشيخ، أم من جهلي بالاماميين، وقد انقضت أربعة عقود من عمري، وأنا ما أزال أعيش بينهم.. قلت للشيخ:

ــ أنت يا شيخي حارس غابة الأنساب، فدلني على شجرة الاماميين، وحدثني عن أصلهم ونسبهم. فاني مصغ أليك أيما إصغاء.

 كعادته دهن الشيخ بلعومه بريقه وقال:

ــ يرجع نسب الاماميين يا ولدي إلى الفقيه زيد الشهيد ابن الأمام زين العابدين ابن الإمام الحسين شهيد كربلاء عليه السلام، ولهذا يطلق عليهم اسم السادة الزيدية الحسينية، ويسمون أيضاً بالسادة (آلبو علاكة).. كانوا يسكنون في بلدة عانة التي تقع في المنطقة الغربية من العراق، حيث كان جدهم السيد ناصر قد ارتحل من اليمن وسكن في محلة السدة من تلك المدينة الغربية منذ القدم، وعرفت أسرته باسم بيت المصلي، وقد انشطرت هذه الأسرة بعد رحيل واحد من أحفاد السيد جنبلاط هو السيد خضير، الذي ارتحل إلى مدينة الموصل، وأنشأ أسرة عُرفت ببيت ملا خضير، التي انتقل منها حفيد الملا خضير المدعو سيد مرعي إلى مدينة السماوة بمعية الجيش العثماني، حيث كان يعمل أماماً وخطيباً وموجهاً في الجيش العثماني، ومنه جاء لقب العائلة التي سكنت في محلة القشلة الواقعة على الضفة اليسرى من نهر الفرات، ولقبت بعائلة الاماميين.. رزق السيد مرعي بعد استيطان العائلة في مدينة السماوة بخمسة أولاد هم عباس، حسن، حسين، حمزة، ومحمد .. استثمر أجداد هذه العائلة في العام 1932 الأموال التي جلبوها معهم في زراعة المحاصيل الشتوية والصيفية كافة على امتداد آلاف الدونمات الممتدة من السماوة إلى لواء المنتفك، حيث نصبوا على نهر الفرات 36 مضخة تعمل بالنفط الأسود، كما امتلكوا مساحة 96 دونماً من بساتين السماوة الشرقية، وبستان كبير على امتداد نهر الفرات وبمساحة 148 دونماً يعرف ببستان (أبو النواس).. كان جدهم سيد عباس الامامي عضواً في لجنة الإغاثة حين أُبتليت المدينة بمرض الطاعون، كما ساهم مساهمة مادية كبيرة في دعم المجاهدين، الذين تجمعوا في السماوة من مختلف مدن العراق لمجابهة السفن الانكليزية القادمة من مدينة البصرة عن طريق نهر الفرات، وقد عين السيد حسن الامامي أول مدير لبلدية السماوة في العام 1909 أيام عبد العزيز القصاب الذي عُين قائم مقاماً لقضاء السماوة عام 1908 في عهد الوالي ناظم باشا.. وهل تعلم يا ولدي أن أول مَنْ أدخل الكهرباء إلى السماوة هو السيد عبد الستار الامامي، حيث استورد في العام 1934 مولدة كهربائية تعمل بالنفط، نصبت في موقع قريب من خان آل سعودي، وقد أشرف على تثبيت وتأسيس أعمدة الكهرباء احد المختصين الذين كانوا يعملون في قصر الملك غازي.. اختلطت دهشة السماويين العظيمة بفرحتهم، وهم يرون ليل السماوة لأول مرة مضاءً بالمصابيح الكهربائية، وعندما تشكلت لجنة من وجهاء السماوة لجمع التبرعات لبناء أول مدرسة متوسطة في المدينة، كان السيد عبد الستار الامامي واحداً من أعضائها. وقد كان وكيلاً عاماً للمنتجات النفطية وله محطات توزيع في مدن الحمزة، السماوة، والخضر، ولا ننسى أنه أول من أنشأ معملاً للثلج كان موقعه في مدخل سوق المدينة.

صمت الشيخ ليلتقط أنفاسه، فاغتنمت الفرصة لأسأله:

ــ يا شيخي الجليل، ما علاقة كل ما ذكرته الآن بصورة السينما هذه التي ما أزال أحتفظ بها في يدي؟

ــ كل العلاقة يا ولدي، ما أردت أن أوضحه في كل ما ذكرته عن هذه العائلة، أنها عائلة متحضرة، وهي أكثر انفتاحاً من العائلات الكبيرة المعروفة في السماوة، وأن أفرادها بالإضافة إلى خبرتهم الاقتصادية فان لهم معرفة بشجرة الثقافة وفنونها، والتي كان من ثمارها تأسيس ذلك الصرح الثقافي في السماوة وأعني به سينما الأمير عبد الإله التي تم افتتاحها في العام 1948، والتي غُير اسمها إلى سينما الشعب بعد قيام ثورة 14 تموز 1958.

ــ كان أبي يقول أن محمود الدهان كان قد ساهم في بناء السينما مع عائلة الاماميين ممثلة بعبد الستار الامامي وشقيقه عبد الرزاق الامامي.

ــ ما ذكره أبوك صحيح فقد كان محمود الدهان شريكاً في بناية السينما التي أُنشأت على أرض مساحتها 1200 متراً مربعاً.

عدت إلى التطلع في صورة السينما التي تسببت في خسارتي لأول وأغلى قبلة في حياتي.. كنت قد وضعت قدمي على عتبة المراهقة فقوضت خرافات (طماطة) خيامها، ورحلت عن أجفاني مفسحة المجال للكثير من البنات والنساء اللاتي يدلفن من باب أحلامي المشرعة، ليشعلن النار في جسدي، ويقضين الليل في سريري.. فجأة جاءني الحب في الحقيقة لا في الأحلام. ورقة مطوية انتزعت من دفتر مدرسي ودُست في يدي. كانت رسالة من ابنة جيراننا أمل، لم يكن فيها غير سطر واحد مكتوب بقلم الرصاص وبخط ضعيف، سطر واحد لا غير محا من مخيلتي وجوه كل نساء الأحلام.. قرأته وأعدت قراءته ربما ألف مرة حتى حفظته كل مسامة في جسدي:

(أحببتك يا ولد فأرجو المراسلة)

 وفي أسفل الورقة كتبت:

(الطالبة: أمل علوان

المدرسة: متوسطة السماوة للبنات

الصف: الأول

الشعبة: ألف)

انتزعت ورقة من دفتر القراءة، وكتبت لها جواباً ضمنته بعضا من الشعر الذي كان جدي يلقيه أحيانا في ليال خيمة الحكايات.. كتبت لي، وكتبت لها، حتى لم يبق في دفاترنا ورقة يمكن انتزاعها، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي وعدتني فيه بقبلة، وهو اليوم الذي مرَّ فيه قاسم الأحدب في محلة القشلة وهو يحمل ملصق فلم سبارتاكوس.. كنت قد شاهدت مقدمته في السينما لأكثر من مرة، وهو فلم تأريخي طويل بثلاث فترات من تمثيل كيرك دوكلاس وجين سيمونس، وإخراج ستانلي كوبريك.. يحكي قصة ثورة العبيد الثالثة التي قادها سبارتاكوس ضد الإمبراطورية الرومانية من أجل الحرية.. قُبيل غروب شمس ذلك اليوم التقيت بأمل، وطلبت منها أن تفي بوعدها، وتمنحني القبلة التي لم يسبق لي معرفة طعمها، إلا في الأحلام... جست أمل جيب دشداشتي:

ــ هل عندك فلوس؟

 أربعون فلساً. أعطاني إياها أبي.

ــ أعطني إياها.

ــ لكنها ثمن تذكرة الدخول الى السينما

من حبيبتك أنا أم السينما؟

ــ أنت حبيبتي طبعا.

ــ أعطني الفلوس ولا تذهب الى السينما.

ــ لكن فلم اليوم هو سبارتاكوس.

ــ مَنْ سبارتاكوس؟

ــ عبد ثار على الإمبراطورية الرومانية مطالباً بالحرية.

ــ أعطني الفلوس، ورح غدا للسينما.

ــ أصدقائي وأولاد خالتي كلهم اتفقوا على مشاهدة الفلم في يومه الأول، فلا تحرميني من الذهاب معهم.

ــ مَنْ الأهم عندك أنا أم هذا.. ما اسمه؟

ــ سبارتاكوس.

صرخت في وجهي:

ــ مَنْ الأهم أنا.. أم سبارتاكوس

صمتُ ولم أجب، كنت محتاراً بينها وبين سبارتاكوس

ــ أجبني مَنْ هو الأهم عندك أنا أم هو؟

اقتربت منها بحيث لم يعد يفصل بين شفتينا غير شبر.. همست:

ــ إذا تحبيني، امنحيني القبلة، وخليني أشوف الفلم،

ــ أعطني الفلوس، أعطك القبلة.

ــ أعطني القبلة، وغدا يعطيني أبي مصرفي فأعطيه لك.

لطمتني على صدري، أبعدتني عنها، وصرخت في وجهي ثانية:

أنا لا أعرفك، ولا تعرفني، وإذا تعرضت لي مرة أخرى فسأخبر أهلي.

غادرتني بسرعة مبعثها الغضب، وغادرتها ببطء مبعثه الخيبة.. فضلت قبلة سبارتاكوس على قبلة أمل، التي تزوجت في ما بعد من رجل مقيم في الكويت دون أن أذق طعم شفتيها.

 

حامد فاضل

 

في نصوص اليوم