نصوص أدبية

حربٌ صغيرةٌ

abdulfatah almutalibi(لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت)

مارتن لوثر كنغ

 


 

حربٌ صغيرةٌ / عبد الفتاح المطلبي

 

مساءً تُراودُني الهزائمُ فأُسَلّمَ نفسَيَ لقيادِها بعدَ عناد، يسبقُ الأمرَ تلك التفاصيل التي تجري عادةً بينَ منتصر ومهزومٍ يحني رأسَهُ مُقراً بالهزيمة، كان الوقتُ بعدَ العِشاء، الجرذُ القارضُ يقفُ ليسَ بعيداً على قائمتيهِ الخلفيتين وقد فَعَلَها لأول مرةٍ إذ كانَ يبغي بذلك الإشارةَ إلى أنه بالإمكان خرقُ القواعد، انطلقت كلمة قواعد من الجرذِ مباشرةً نحوي مثل إطلاقةٍ لا تلوي على شيء وكنتُ متأكداً أنه يعنيني، هذا الجرذ يشاطرني حديقةَ المنزل منذ أن اكتشفت موت شجيرة الفلفل وكنت أراقب سعيها في الحياة لتكون جديرةً باسمها فالفلفلُ نكهة حياتي وبدون تلك النكهةِ تكون الحياة باهتة لكن هذا الدخيل مَحَقَ فرصتَها في نيل المآرب وتركها معلولةً فبتُّ حزيناً، في الأيام التي مَضَتْ ما ادخرتُ جهداً ولا تغافلتُ عن نصيحةِ صديقٍ لكي أدحرَ هذا الجرذ وأستعيد منه النصفَ الذي استحوذ عليه من حديقتي وهو عادةً النصف الذي يحاذي الشارع العمومي وكذلك لأسعفَ ما تبقى من حياة الفلفل لكن الأمر لم يفلح لوجود ذلك الفارق الواضح بين ميداني وميدانهُ، لي مساحةٌ محدودةٌ في البيت الذي أنسحبُ إليه بعد كل هزيمةٍ بينما كانت له أنفاق الحديقة التي صنعها بمهارة وأنفاق المجاري التي لا حدودَ لها ولا نظيرَ لِمَنَعَتِها يقيمُ فيها حفلُ انتصاره المجيد، قررتُ أن أُشهِرَ هزيمتي فقد كان كائناً ليلياً مجيداً يُحسنُ تحقيقَ أهدافهِ تحت ستار الليلِ، الليلُ يَشهدُ انتصاراتِ الجرذِ المتواليةِ دون ضجّة فهو مخلوقٌ يعمل بروية وهدوء ولا يُعرّض سلامتَهُ للخطر حتى أنه يدفع القطط المُعتدّةِ بنفسها إلى أكل اللحمة المسمومة ليبقى حيّاً يتفرج على مصائرها المأساوية، اليوم كنتُ قد شيعتُ قِطّيَ الصغير المدلل إلى مثواه الأخير بعد إن كسرَ فؤادي برعشات موته الأخيرة حين تسلل دون علمي إلى الفخ الذي وضعته من أجل حربي مع الجرذ فمات وفي عينيه كثيرٌ من اللوم وهذا سببٌ آخر لأحزاني وقد جرى الأمرُ على أن النهار لي أردمُ أنفاقَ الجرذ وله الليل يحفرُ عشرةً بدلا منها حتى رفعتُ الرايةَ البيضاء معلناً عجزي عن مجاراته لكنّ الأمورَ لم ترسُ على هذه النتيجة لولا وجود ظهيرٍ من وراءهِ وأعني ذلك الآسر اللاهي الذي وضعني بحسبانه منذ عرفتُ هذه الدنيا وحتى هذه اللحظة، ما أن يأتي الليل حتى يجدّ بإثري جاعلا مني طريدته في لعبته، معتقداً أنني جرذهُ الذي يُطارد فأنسى جرذ حديقتي حافرَ الأنفاق قارضَ جذور الشجيرات وكلّ يومٍ بعد أن يأسرَني والليلُ ساجٍ أذكّرهُ بأن ذلك محضُ إجحافٍ بحقي وتغليبٍ لكفة الجرذ على كفتي بانحيازٍ معيب فيُطلقُ سراحَي صباحاً وعلى سحنته ابتسامة المنتصر قائلاً: إنما هي لُعبةٌ نلعبها أنا وأنت أما الجرذان فهي لا تلعب، أرأيت جرذاً نائما؟ آه .. نعم الجرذ لا ينام على حد علمي، وعندما تُشرق الشمس يتغافلُ عني فأعيد الكرّةَ مرةً أخرى لأجِدَّ بإثر جرذيَّ العتيد أطمرُ أنفاقَه مستغلاً غيبة آسري الليلي فهو نادرا ما يجيء نهاراً وعندما يأتي في وقتٍ ما من مساءٍ آخر أكون قد أتممتُ استعداداتي ظانّاً أنني يمكن أن أتغلب عليه هذه المرة كما تغلب عليَّ جرذ الحديقة تماما وكما يسبقني بنفقٍ أو نفقين، أطمرُ واحدا يحفر ثلاثة وهكذا قبلَ ذلكَ أضع خطتي وتكتيكي لعلي أستطيع بما استجد أن أكون بوضعٍ أفضل، يتقدم كل مساء في الوقت ذاته لكنني أراه على رقعة اللعبة يسبقني بمربعٍ أو اثنين ومهما اعتنيتُ بالتفاصيل الصغيرة لصمودي وتفقدتُ التحصينات ِ حولي ورفدتُ حيّزَ يقظتي بوسائلَ تعينني أطول مدة ممكنة على الصمود لكنه يمد خيوطه الرفيعة والطويلة مخترقا كل الموانع والعراقيل التي حرصتُ على أن أضعها في طريقه مستعملا كل ما يتوفر من سلاحٍ لبتر تلك الخيوط وما أن أضرب خيطاً من خيوطه حتى يتشظى الخيط الواحد إلى آلافٍ منها تزحفُ ببطء وإصرارِ نافذةً من ثقوبٍ صغيرة لا أراها وحين يتسورني يبدو عملاقا صارمَ الوجهِ وأبدو حياله قزماً قميئاً لا حول ولا قوة لي وحين ذاك أنسى الجرذ وحربي الصغيرة معه وأخلي له الساحة وحين يُسقَطُ في يدي وأشعر بعدمِ الجدوى، ترتخي عضلاتي ويبهتُ وجيب قلبي وينهار عزمي فأنتهيَ مستسلما لجبروته، وما أن تصل تلك الخيوط اللزجة إلى محجري عيني حتى تعمل كإبرة الخِياط أحس وخزها في جفني وفي غمرة القنوط واليأس تقفل عينيَّ تلك الخيوط التي التفت قبل ذلك على سائر جسدي وجعلتني كفريسةِ عنكبوتٍ ملفوفاً بخيطها اللزج فأغيب عن الوعي تحت انهمارٍ لظلّه الأسود، صباحاً أجد نفسي في مكاني كمن أفاق من نوبةِ صرعٍ وآثار الخيوط المقطوعة تتدلى من أجفاني وأشعر بلفائفها قبل غياب وعيي متناثرةً حولي، أحاول تحريك أعضاء جسدي، فيتحرك دمي في عروقي ثم أنفض ما علي من بقاياها وأنتفضُ واقفا شاعرا بهسيس تساقطها من حولي، أحدق أمامي مباشرةً، يخيل لي أنني أراه وشبحَ ابتسامةٍ ترتسم على ملامحهِ مثل مويجات سراب تتراقص أمام عيني، يصلني همسُهُ ساخراً من يقظتي:

حبلكَ بيدي أعرف متى أرخي ومتى أشدّ، أنت عبدي حين أحضر، سيظل عُنُقِكَ مربوطاً إلى نيري، ثِقْ أنكَ لن تمضيَ بعيدا، والآن خذ ما تشاء من الحيطة، إبنِ ما تريد من حصون، تجهزْ بما تظن أنه ينفعك، وسنعيد اللعبة من جديد، أنت تريد الجرذ وأنا أريدك سآتيك من بين يديك أمُدُّ خيوطي إليك وستقاوم ما استطعت وستندحر مرة أخرى وتستسلم ناسيا جرذ حديقتك يواصل مآربه تحت شجيراتك الأثيرة، وسأطلقك من جديد في نهارٍ آخر، أنت حيواني الأليف، هذه قواعد اللعبةِ، يوما ما سنسأم معا ونمل اللعِبَ يومها ستكون رفيقي إلى الأبد.

 

في نصوص اليوم