نصوص أدبية

قطار الموت

hamed-fadil في زمن يكدس أحداثه النافقة في مقابر التأريخ، تُستفز الذاكرة، فتستفيق أيام البراءة من سباتها.. اللحظات السعيدة تمزق شرانق النسيان، لتحلق بأجنحة المخيال التي نمت من زغب الماضي المخبأ في صندوق الطفولة، الموشوم بأخاديد السنين، لذا سألت الشيخ:

ــ أية متعة تضاهي متعة الأيام الخوالي؟

أطرق الشيخ لحظات، ثم أجاب:

ــ سؤالك ينثُ رذاذ أسى في الفؤاد.

مددت يدي للشيخ بصورة محطة قطار السماوة القديمة، وأردفت:

ــ لِمَ نَحِنُ الى الماضي.. نتحسر عليه ونحن نتطلع الى المستقبل؟

ــ المستقبل يا ولدي ماض مخبوء في زير الزمن.. سَنَحِنُ إليه حين يصير معتقاً.

ــ صدقت يا شيخي، لهذا كان أبي كلما رأى محطة قطار السماوة القديمة، وهي تنزع ثوباً وتلبس ثوباً. تحسرَّ، وقال: (لقد حولوها الى حرباء).

أعاد الشيخ الصورة إليَّ، فعدت الى التطلع فيها.. كانت المحطة التي بنيت عام 1917 شاخصة في الصورة مثل وشم على جيد امرأة ريفية.. محطة قطار السماوة القديمة هذه. خلعت عليها المتغيرات السياسية ثياباً حربائية، فمن حامية عسكرية، الى محطة قطار، ومن مطعم وبار سياحي، الى موقف لشرطة التسفيرات، ومقر لقيادة قوات الحدود، ثم مقر للتحقيق والقتل بعد انسحاب رجال الانتفاضة الشعبانية عام 1991 الى منطقة رفحاء السعودية، ودخول الجيش الى مدينة السماوة.. بعد أن صمتت آخر بندقية في الحرب العالمية الأولى، وأُعيد آخر سيف لغمده، فوجئت السماوة بزمر الجنود الانكليز الوافدين من ثغر العراق، المتمترسين خلف قطعان الهنود المسلمين، والسيك، والكركة، وهم يستعرضون صدورهم المزحومة بأوسمة النصر على أحفاد سليمان القانوني.. يومها استدعت الدهشة اتساع العيون المبهورة بالوجوه البلق، الشعور الشقر، العيون الملونة، الركب البيض المكشوفة، البنادق الطويلة، الملابس الكاكية، والخوَّذ التي تشبه الطواجن.. لكن لحظات الدهشة سرعان ما وئدت، وطُمرت تحت غبار ما تلاها من أحداث، يوم انتفضت العُقل في الدواوين، وأقسم الرجال بالشوارب. انسلَّت نظرات الدهشة من العيون لتحط فيها نظرات الرفض.. نطقت البنادق، أشرعت الخناجر، أُمتشقت السيوف، سددت (الفالات)، ورُفعت (المكاوير) بوجه الجيش الانكليزي المحتل الذي تمترس بالحصون التي شرع ببنائها ومنها حصن السماوة الذي لم يدر في خلد مصممه أن أبناء جلدته سيحولونه الى محطة للقطار حين استدعت الحاجة الى بسط النفوذ إنشاء أول سكة حديد تربط بين العاصمة بغداد وقاعدة الشعيبة في البصرة.. أول ما يلوح لعين الرائي برج المحطة الذي يشمخ مطلاً على الجهات الأربع، ثم بوابتاها الكبيرتان، الأمامية المطلة على تقاطع شارع (أبو الستين)، وشارع مصيوي، حيث الفنادق، المطاعم، المقاهي ترحب بالوافدين.. والخلفية المفتوحة على الأرض المفروشة بالحصى المسفوحة بين (اللوكة) سقيفة إيواء العربات وإدامتها وتزويدها بالوقود، ومنخفض تجمع مياه الأمطار حيث يوفر البردي المتشابك في المستنقع مأوى آمناً للطيور المائية والطيور المهاجرة القادمة من أقاصي الصين.. بمحاذاة المحطة بين الشارع المؤدي الى مركز المدينة وبين قضبان سكة القطار اصطفت بيوت السكك التي تميزت بانخفاض أسيجتها الخشبية على الطريقة البريطانية، وخضرة حدائقها. خلف المحطة تبعثرت بيوت الصفيح العشوائية وأكواخ فقراء منطقة الشوصة التي تشكل الحد الفاصل بين البلدة والبادية.. الجدران العالية المشيدة من الطابوق المقلَّم بالأسمنت، تبدو متهرئة كدشاديش الفقراء، وفي الكواء وجد اليمام منازلاً فأثثها بالأعشاش.. يتناسل، يبيض، يفرخ، ويرسم بذروقه جداريات عشوائية.. في سنين خلت كانت هناك رؤوس بخوذ أو عمائم تطل من تلك الكوى، يوم كانت تستخدم كمراصد عسكرية للانكليز. في الداخل تمركزت نافورة صغيرة وسط الساحة الواسعة المكشوفة للسماء، المحاطة بأربعة طوارم، تشكل أضلاع مربع الساحة، ومنها تطل أبواب غرف ناظر المحطة، مفوض الشرطة، قاطع التذاكر، مفتش القطار، الفنيين، الموظفين، وغرفة سجن المحطة المحكمة الباب بقضبان من الحديد.. الطابق العلوي توأم الطابق السفلي، تتوزع في محيط مربعه غرف عدة، لا تختلف في مساحتها وتصميمها عن غرف المحطة الأخرى، وقد انتصب في الطوارم العليا سياج من الخشب المصبوغ باللون الأخضر.. والأخضر هو اللون السائد في المحطة، فقد اكتست به الأبواب، الشبابيك، الأسيجة، الأرائك المبثوثة، وحتى حنفيات أحواض الماء الكبيرة التي كُتبت في أعلى زاويتها اليمنى بالعربية عبارة (ماء صالح للشرب)، تقابلها أعلى الزاوية اليسرى بالانكليزية عبارةdrinking water  في الواجهة المقابلة للسكة، ثبتت ساعة المحطة، بحيث يرى عقاربها القادمون من جميع الجهات.. على الرصيف المحاذي للسكة الحديد، امتدت مظلة طويلة تستند الى عدة أعمدة من الإسمنت لحماية المستقبلين والمودعين من المطر شتاء، وشواظ الشمس صيفاً.. للمحطة موعدان مع الصخب والحركة، موعد نهاري، وموعد ليلي، وفي الموعدين يعانق عقرب الدقائق عقرب الساعات على بساط الرقم (12)، حيث يلتقي القطاران الصاعد الى العاصمة والنازل منها.. أتذكر الآن ليالي المحطة الذهبية، ليالينا المفعمة بالشباب، الحُب، البساطة، والأمان.. تلك الليالي التي كستنا بثياب السعادة والنقاء التي لوثتها أكف الطغاة، ومزقتها نصال الحروب.. أين أقراني؟ أولئك الطلاب، شركائي في ليالي المحطة.. أين عادل الذي دفنته سواتر الحجابات؟ وصباح الذي مزقته سرفة دبابة؟ وفيصل الذي فقد في الأرض الحرام؟ ومجيد الذي ضاع في بلاد الغربة؟ ثمان سنوات من القتال، هي حرب بسوس أخرى، مكتظة بصور المعارك.. ثمان سنوات أُعدم فيها من أُعدم، قُتل مَنْ قُتل، أُسر مَنْ أُسر، فُقد الذي فُقد، وتغرب الذي تغرب.. أستحضر الآن ليلة من ليالي المحطة، ها نحن مجموعة طلاب من أبناء الفقراء، نقرأ دروس الغد تحت نصاعة أضواء المحطة.. حيث يقبع عبادي قاطع التذاكر في شباكه مغالباً النعاس، ويبدو لنا بشاربه الستاليني، وقبعته الزرقاء كصورة مؤطرة بالنافذة.. أما ذلك البدين المعبأ بدشداشته البيضاء، فهو محمد بائع اللفات والعصير، أراه يروح ويجئ موزعاً تعليماته مهيئاً صناعه لاستقبال القطار، أما الشرطي العجوز الخافر الذي لم يعد يخيف أحداً، فهو الممثل الوحيد للسلطة في ليل المحطة، حيث يتركه المفوض خارج غرفة الشرطة ويغلق الباب، ربما لسماع الأغاني من الراديو، أو لأخذ قسط من الراحة.. وتلك الجياد الصافنات، خيول الربلات المنتظرة قدام المحطة، وقد تركها الحوذيون لترتاح، وانصرفوا للتدخين والثرثرة في مواضيع لا تتعدى أسعار الأعلاف أو أمراض الخيول، وربما يحتسون قليلاً من العرق المحلي الرخيص، أشهرهم سبع الحوذي الذي كان السماويون يتندرون عليه بقولهم (جاءنا سبع والخيل تركض قدامه).. عقربا ساعة المحطة المطلة كعين كبيرة تدبان ببطء نحو منتصف الليل، موعد التقاء القطارين، الصاعد من الجنوب الى بغداد، والنازل منها الى البصرة.. يحين الموعد، تدق الساعة، يُسمع صفير قادم من جهة الشمال، وصفير قادم من جهة الجنوب، إنهما القطاران يعلنان عن الوصول الى المحطة.. ينتفض قاطع التذاكر مثل طير بليل، يفز الشرطي العجوز من غفوته، يطرق باب المفوض، يسود الصخب المحطة، ينفضُ جمع الحوذيين، يتهيأ المسافرون، يتوقف لهاث القطارين وهما يدخلان المحطة.. يطلق القطار النازل صفارة قصيرة للتحية، فيرد القطار الصاعد التحية بأحسن منها.. تتحول المحطة الى خلية نحل.. يتقدم مطر الحمال ثلة الحمالين الذين يهجمون على حقائب المغادرين والوافدين، لعابه يسيل على صدره العاري، وهو يتصيد حقائب النساء فقط..  تنطلق  حناجر الباعة المتجولين:

ــ حب سكائر علك.

ــ عصير بارد.

ــ خبز حار.

ــ لفة طيبة.

ــ شاي أبو الهيل.

تمتلئ العربات بالضحك والتحيات والصراخ والمناداة.. بكاء أطفال، أصوات نساء، صراخ رجال.. عندها نترك نحن الطلاب الكتب ونركض نحو العربات متطوعين لمساعدة النساء في حمل الأطفال، أو مساعدتهن في الصعود الى القطار، ونحن ننتقل من عربة الى أخرى طوال فترة استراحة القطارين.. كنا في أوج فترة مراهقتنا ننتقل من زهرة الى زهرة في محاولة للتعرف بالمسافرات من البنات، وربما يساعدنا الحظ فنلتقي بمن لا يمانعن في إعطاء عناوينهن، نعاكس ونتكلم مع بعضنا بـ (إياك أعني وأسمعي يا جارة)، ممتعين أنظارنا بمرأى وجوه الحسناوات الناعسات التي نخزنها في مرايا الذاكرة لنعاود النظر إليها بعين المخيال عندما يلجأنا الجوع الجنسي الى الاستمناء.. تنحنح الشيخ فحدست أن لديه ما يريد أن يضيفه، وفعلاً كان ظني في محله:

ــ أتدري إنَّ العلاقة بين المسافة والزمن بالنسبة للنقل البري قد تناسبت طردياً وما تزال مع إنشاء السكك الحديد، وتطور صناعة القطارات، منذ مسير أول قاطرة بخارية في بريطانيا عام 1814. إذ سرعان ما استقبل العالم اختراع القاطرة البخارية باهتمام كبير وما أن حل القرن التاسع عشر حتى انتشرت القضبان الحديدية في مختلف دول العالم.

وضعت صورة المحطة الى جانب الصور التي جادت بها العلبة:

ــ أدري يا شيخي، فإنَّ لي اهتمامي المتواضع بالتأريخ على كافة الأصعدة، وأدري أيضاً أن العراق هو البلد العربي الثاني الذي عرف القطارات كوسيلة  للنقل بعد مصر. ولو عدنا الى تأريخ العراق القديم، لأخبرنا أن سكان العراق القدامى من البابليين والآشوريين، هم أول من أنشأ السكك في العراق قبل أكثر 3800 سنة قبل الميلاد، وقد كانت على شكل ممرات ضيقة من الحجارة المرصوفة تسير عليها العجلات المسحوبة بالحيوانات.. وقد قام الفينيقيون بنقل هذه الفكرة الى أوربا.

ــ لا أشك في ذلك، لكن الأوربيين هم الذين اخترعوا الماكنة البخارية التي سحبت العربات على أول سكة حديد في العالم أُنشأت في بريطانيا عام 1825، أما بالنسبة الى العراق فقد فرض موقعه الإستراتيجي على البريطانيين مدَّ خطوط سكك الحديد  لربط بريطانيا بمستعمراتها في الشرق الأوسط،  وتشكلت أول إدارة للسكك الحديد بإشراف القوات العسكرية البريطانية عام 1916، وقد مَرَّ أول قطار بمدينة السماوة عام 1920 بعد افتتاح خطه وتسيره بين بغداد والبصرة، حتى إذا حلَّ عام 1936 نُقلت ملكية السكك الحديدية الى الحكومة العراقية بعد موافقة الإدارة المدنية البريطانية.

صمت الشيخ فاغتنمت الفرصة لأعود الى ذاكرة محطة السماوة التي أعد لها تأريخ العراق النضالي المعاصر في متنه متكأ مائزاً لاقتران اسمها باسم ذلك القطار الشهير الذي عٌرف باسم قطار الموت، فما ذكر القطار إلا وذكرت المحطة، وما ذكرت المحطة إلا وذكر القطار الذي عبئ بالسجناء المزمع نقلهم الى سجن نقرة السلمان غب انتفاضة 3 تموز 1963 المعروفة بثورة حسن السريع الرجل السماوي الذي ولد في ريف السماوة، وترعرع في ريف كربلاء، والذي كان أبي يتحدث عنه بإجلال كلما مرَّ ذكر قطار الموت قائلاً:

ــ كان العريف حسن الذي أُعدم رمياً بالرصاص في 13 تموز عام 1963 رجال أخو أخيته ومفخرة من مفاخر بني حجيم، فهو الذي أطلق الرصاصة الأولى للانتفاضة التي خطط وحضرَّ لها في معسكر الرشيد ثم نفذ.

ــ ما الذي تعرفه عن قطار الموت قبل وصوله الى محطة السماوة؟

تشبثت بحبل سؤال الشيخ المباغت لأخرج من بئر الذاكرة:

ــ لا أعرف عنه الكثير.. الذي أعرفه هو أني كنت حاضراً في المحطة وقت وصول القطار.

مسح الشيخ وجهه بكوفيته، فاهتزت هالة الضوء المحيطة برأسه:

ــ قطار الموت يا ولدي، كان قطاراً مخصصاً لنقل البضائع، وقد طلي سقف عرباته الحديدية بالقار لإيصال أكبر كمية من حرارة شمس تموز المحرقة الى داخل العربات، التي حُشر فيها أكثر من 500 سجين سياسي من العسكريين والمدنيين هم العدد المتبقي من المعتقلين، الذين تم إعدام قسم منهم  بعد وأد الانتفاضة. وأُتفق على قتل الباقين عن طريق القطار بطريقة مبتكرة بحيث يبدو الأمر وكأنه حدث عابر.

أخذ الشيخ نفساً عميقاً وزفره ثم قال:

 في فجر يوم الرابع من تموز عام 1963 صدر الأمر بانطلاق القطار المموه بعدد من رجال الأمن المتنكرين بصفة مسافرين من محطة بغداد الى محطة السماوة مع التأكيد على سائقه بعدم الإسراع في السير خشية على البضاعة الخاصة التي يحملها في عرباته الحديدية المقفلة بإحكام.. كان الشك قد راود سائق القطار عبد عباس المفرجي منذ الغبش بعد تبليغه من رجال الحرس القومي، وتلقيه الأمر بقيادة القطار، وتناسل الشك بعد أن عرف السائق أن المشرفين على عملية نقل البضاعة الخاصة التي يجهلها هم من كبار المسؤولين في الدولة من عبد السلام عارف الى طاهر يحيى، ومن رشيد مصلح الى مصطفى الفكيكي.. انطلق السائق بالقطار ببطء حسب الأوامر والتعليمات التي كررها المسؤولون لأكثر من مرة، وما أن طلعت الشمس من باب المشرق الموارب، حتى تحسستها سقوف العربات الحديدة المطلية بالقار، فزفرت أنفاسها الحارة على مَنْ حُشر تحتها من بضاعة بشرية.. أتعرف يا ولدي أن مَنْ كانوا في تلك العربات من الذين طالما تغنوا بالشمس، تمنوا لو أنها لم تشرق في ذلك الصباح التموزي الذي أُرغموا فيه على السفر في ذلك القطار السائر بسرعة سلحفاة.. بعدما نزلت الشمس من محفة الأفق الشرقي، وراحت تخطو على مهل نحو محفة الأفق الغربي. في يوم قاربت درجة حرارته (50) مئوي، عرف المسجونون في العربات الخطة الجهنمية التي تفتقت عنها عقول جلاديهم. لقد هيؤوا لهم خمسة عشر تابوتاً حديدياً كبيراً على شكل عربات في قطار يقطع (228)كم في عشر ساعات، هي المسافة بين بغداد والسماوة، إذا سار بالسرعة المقررة له، فبكم سيقطع هذه المسافة وهو يسير بالسرعة السلحفاتية، التي أبلغ بها المسؤولون سائق القطار.. أدركوا أنهم مُلاقو حتفهم، سيسقطون الواحد تلو الآخر حتماً، لذا قرروا أن يهزموا الموت المحتوم بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية.. كان النهار الجحيمي يتقدم وهو يرجم بشواظه وحممه القطار البطىء الذي يزحف على السكة مثل أفعى جريحة. نضحت أجساد السجناء آخر قطرة ماء، فأنشب العطش مخالبه في أكبادهم. راح البعض منهم يهذي أو يصرخ طالباً النجدة التي لا ولن تأتي.. امتلأت صدورهم بالغازات، والروائح المنبعثة من القار، والأوساخ المرمية في العربات بكيد سابق، فدهمهم الاختناق والغثيان، وألجأهم هبوط الضغط الى التقىء، وقد أغمي على كثير منهم نتيجة الانخفاض في نسبة الماء والملح في أجسامهم.. الصق البعض أنوفهم في الثقوب الصغيرة التي في جدران العربات في محاولة لاستنشاق القليل من الهواء النقي، فيما راح آخرون يلحسون العرق الناضح من أجسادهم.. حين بدأ السجناء بخلع ملابسهم، نصحهم زملاءهم الأطباء بعدم فعل ذلك كي لا يفقدوا طاقتهم. خاصة وأنهم كانوا على شفا حفرة من الموت.

لم أتمالك نفسي أي عقل مريض تفتق عن هذه الفكرة الشيطانية، صرخت:

ــ عجباً كيف وصلوا أحياءً الى محطة السماوة!

ــ تلك معجزة يا ولدي. (قال الشيخ) وأردف:

ــ أخبرتك في بداية حكايتي عن قطار الموت أن السائق كان في شك مريب من البضاعة التي يحملها، وقد تحقق ذلك الشك في محطة المحاويل، حين تسرب خبر حقيقة البضاعة، التي يحملها القطار الى أذن السائق عبد عباس المفرجي، وقد تبرع شرطي عراقي أصيل بإيصال الخبر الى السجناء، وحثهم على الصبر والثبات، فقد علم سائق القطار بأمرهم، وسيزيد من سرعة القطار كي يوصلهم أحياء الى محطة السماوة، وقد تحايل السائق على رجل الأمن الذي يراقبه مدعياً أن خللاً حدث في جهاز السرعة مما يستدعي زيادتها قليلاً، وقد رفض رجل الأمن فكرة زيادة السرعة، لكنه حين رأى تجمع الناس في كل محطة يصلها القطار وهم يحملون الجرادل المملوءة بالماء البارد، وما أن يتوقف القطار في محطتهم حتى يقوموا برش العربات بالماء. أسقط في يده، وتقبل فكرة زيادة السرعة، فما كان من السائق، الذي تعاطف مع السجناء إلا أن ينطلق بقطاره بأقصى سرعة مسموح بها لقطار حمولة في الحالات الطارئة، فاستطاع بذلك من إيصال القطار الى محطة السماوة قبل الموعد المحدد بأربع ساعات، كانت كافية لإنقاذ السجناء من موت محقق.

سألت الشيخ: كيف علم أبناء السماوة بحقيقة القطار، فاستقبلوه بذلك الاستقبال، الذي سيظل خالداً في ذاكرة الأجيال؟

فأجابني بسؤال: أتعرف السيد طالب؟

أجبت: كيف لا أعرفه وهو واحد من وجهاء السماوة المعروفين.

ــ فاعلم أن السيد طالب أتصل من بغداد بوجهاء السماوة، وطلب منهم استنفار الأهالي لاستقبال القطار لأن ابنه وهو ضابط صيدلاني كان من ضمن سجناء القطار.

اتكأ الشيخ الى الحائط. ارتاح بعدما أفرغ ما كان يكنه في صدره عن واقعة قطار الموت.. أما أنا فقد اقتفيت أثر ذاكرتي، التي رجعت القهقرى الى اليوم الرابع من تموز عام 1963، فوجدت نفسي أسير في سوق السماوة، وقد سمعت مناديا يركض في السوق، وهو ينادي بأعلى صوته:

ــ وين أهل الشرف والغيرة والنخوة.. وين أهل السماوة العزاب.. اركضوا للمحطة وساعدوا أخوانكم أحرار العراق.

 ركضت مع الراكضين خلف المنادي، كنت حينها صبياً في الصف الثاني متوسط، فسبقت الرجال الذين يحملون الرقي، الخبز، الملح، وجرادل الماء واللبن، حتى صرت قريباً من المنادي الذي كان العامل البسيط عبد الحسين افليس.. حتى إذا وصلنا الى المحطة، وجدنا من سبقونا من أهالي السماوة قد كسروا أقفال العربات، وأنزلوا السجناء الذين شارفوا على الموت الى رصيف المحطة حيث تمددوا عراة واهنين لا يستطيعون الحركة ..كانوا يشيرون بأيدهم طالبين الماء، يستنشقون الهواء بعمق ويطلقون الحشرجات فأسرع الناس إليهم بالماء، الملح، اللبن، والخبز. وقد أحاط بهم الفتية المسلحين بالسكاكين و (التواثي)  يحرسونهم، ويمنعون رجال الشرطة والأمن من الوصول إليهم، فيما راحت النساء تتقدمهن (أم موسى) صفية بنت الشيخ يوزعن الخبز والطعام على السجناء الذين ظل البعض منهم تحت تأثير الإغماء حتى بعد سكب جرادل الماء عليهم فسارعت سيارة الإسعاف بنقلهم الى مستشفى السماوة، وقد اختطف الموت واحداً منهم.. كان الأطباء من السجناء يطلبون منا نحن الصبية الذين نوزع الماء أن نضع فيه قليلا من الملح.. وبينما كنت أركض هنا وهناك، رأيت بعضاً من المدرسين والمعلمين وهم يساعدون الممرضين في إسعاف السجناء، ثم رأيت أبي وعمي وخالي يتكلمون مع بعض السجناء الذين استعادوا وعيهم، وقد عرفت من أبي بعد ذلك أن أولئك السجناء كانوا من أهل السماوة.. لقد سجل التأريخ لأهالي السماوة كافة ملحمة خالدة، وموقفاً مشرفاً في تلك الساعة التي وصل فيها قطار الشحن المعبأ بالسجناء الى محطة مدينتهم، عندما هرعوا نساءً ورجالاً الى المحطة، ليوقفوا عملية إعدام 500 سجين في قطار الشحن الذي أُريد له أن يكون قطاراً للموت، فحوله السماويون الى قطار للحياة.   

 

حامد فاضل

 

في نصوص اليوم