نصوص أدبية

أغنية تحت المطر

rahman khodairabas"بدأ المطر يهطل بغزارة، بعد أنْ كانت قطراته الصغيرة المتفرقة تصفع زجاج النافذة. صوت الأغنية يتعالى على الإيقاع البلوري الذي ينضح على الزجاج، ليشكل خطوطا متتابعة ومنهمرة ثم سرعان ما يذوب في الفراغ. موسم البرد مازال بعيدا، وهذه الزوبعة المطرية التي إخترقت المدينة دون سابق إنذار، لم تُشعرني الا بإنغمارأكثر مع الموسيقى. لم أشعر بالوحدة ولا الضياع، بل على العكس كانت لدي رغبة عنيفة ان أرقص. إستغربت من هذه الدوافع التي شدتني اليها بحبال غير مرئية. رقصت بهمجية وكأنني حصان فقد توازنه، وغنيت بصوت مبحوح، مرددا ذات اللحن، بشكل مشوّه، وكان صوت المطر حاداً،وأنا أجاريه في الصراخ، وكأنني اريد ان اقتحم الغيوم السوداء التي أطبقت على المدينة. فجأة ينقطع التيار الكهربائي. اصبح كل شيء دامسا، الصمت البارد يحيط بي، ورشاش المطر يصفع النوافذ بهمجية. بحثت عن الموبايل كي أضيء خطواتي المتعثرة او أتصل بالأصدقاء، متحسسا فراشي وسط العتمة. أردت فقط أن أتلمس الغرفة عن طريق إضاءة الشاشة، ولكنني لم أعثر على الموبايل الذي يرافقني ليل نهار، وكأنّ الظلام قد إبتلعه. فتحت باب الشرفة، كي أستنشق بصيص الضوء واهرب من العتمة العميقة التي أطبقت عليّ. كان الفضاء يغرق في رطوبة ثقيلة، والشوارع تبدو موحشة، حاولت العودة الى الغرفة لكن باب الشرفة اغلقته الريح. فبقيت ساكنا في فراغ الليل والصمت وبقايا المطر.غير ان برودة الليل والصمت دفعاني الى اقتحام الباب،حتى إذا تطلب الأمر تحطيمه، لكنه كان مغلقا من الداخل. انتظرت طويلا وانا اعالج الباب كي ينفتح. تصلبت عروقي من التعب والإجهاد وألحيرة. من أغلق الباب خلفي، وشقتي لايسكنها سواي ؟ لأول مرة اشعر بالخوف والوحشة والضياع،ولأول مرة أشعر بالإنكسار والضعف والعجز عن فعل ايّ شيء. لكن عودة التيار الكهربائي جعلني قادرا على معالجة فتح الباب. وكقط متعب إرتميت على فراشي، وغرقت في نوم عميق، لم استيقظ منه الا وأصابع الشمس تداعب جسدي المثقل بتعب البارحة.

- انها الثامنة صباحا !

قفزت الى المطبخ وانا منهمك بإرتداء ملابسي. عليّ أن اصل الى مدرستي في أقرب وقت، والآ سأتغيب عن الدرس الأول في مدرستي التي أعمل فيها. ولكنني أدركت القسم قبل خروج الطلبة. فقد شاغلهم ناظر المدرسة حتى أصل، وكأنه قد تعود على غياباتي المتكررة .دخلت القسم متعبا وشارد الذهن. وبعد أن انهيت الدروس، ذهبت الى غرفة زملائي المدرسين في وقت الإستراحة، وكنت اظن بان موضوع العاصفة المطرية أهمّ مايتحدثون عنه، وحينما أخبرتهم بأمر العاصفة،أبدوا استغرابهم من وقوعها، كما أنكروا إنقطاع التيار الكهربائي في مراكش. وكان حديثي مادة لتعليقاتهم الساخرة

- قال أحد زملائي مازحا : لايمكن لعاصفة مطرية ان تمر في هذا الموسم، ياأستاذ !

غرقت في غابة من الصمت والخجل وانا افكر في ليلة البارحة. هل كانت العاصفة المطرية التي اجتاحت المدينة مجرد وهم ؟ ام أنّ زملائي يريدون أنْ يمتحنوا قدرتي على تحمل المقالب الساخرة.

الذي اثار حفيظتي هو الهمس الضاحك من قبل زميلاتي المدرسات.

قد أكون أقدم مدرس أجنبي في هذه المدرسة، فقد تم نقلي من منطقة ساحلية نائية.

غادرت الوطن في العطلة الصيفية حيث الحرب مع إيران تحرق الأخضر واليابس. وتحصد كل آمالنا بحياة مستقرة، قيل لي : المغرب يحتاج الى مدرسين في التعليم الثانوي، وكنت أحمل شهادة البكالوريوس في الفيزياء.. لكنهم كانوا يحتاجون في وزارة التعليم الى مدرس للعربية فقط. كنت مرتبكا، لأن عودتي الى العراق قد تكلفني حياتي، فيتم إعدامي بسهولة، بحجة الهروب من الواجب الوطني أو العسكري. بعد وساطات وتوسلات. تعاطف الموظف المسؤول عن التعيينات في وزارة التعليم، بعد أنْ تقربت منه ببعض الكلمات الطيبة والهدايا، مما جعله يفهم حقيقة ما أعانيه.

قال لي : ساعينك مدرسا للغة العربية في مدينة الحسيمة.

لم أمتلك خيارا آخر، فقبلت التحدي ووصلت الحسيمة،وهي مدينة تقع على المتوسط في اقصى الشمال الشرقي من المغرب . كنت أسهر الليل لمراجعة قواعد اللغة التي لااعلم عنها شيئا. لأحاول إرضاء الطلبة الذين وجدتهم أكثر كفاءة مني. مر النصف الأول من العام وبينما كنت منهمكا في درس القواعد. اذ دخل مشرف تربوي لمراقبة تدريسي، وحالما رأيته حتى تساقطت كل المعلومات التي اسهر على قراءتها. واصبحت أخطيء بالقراءة والكتابة. كان الرجل في قمة الأدب، وقد قرأت في وجهه خيبة أمل كبيرة وهو يستمع الى أدائي الفاشل وأخطائي النحوية والإملائية. اختلى بي وهو يستفسر عن جلية الأمر. فاعترفت له باني مدرس فيزياء اضطررت ان ادرس لغة عربية لعدم وجود حاجة لأختصاصي، مما جعله يكتب الى الوزارة التي نقلتني الى هذه المدرسة، كي أدرّس في حقل اختصاصي.وها انا منذ عقدين في هذه المدرسة. اعرفها حجرا حجرا، اعرف الطلاب الذين مروا من هنا، والمدرسين والعساسين والكتبة، اعرف كل شيء عنها.

شقتي مبعثرة، الكتب واعقاب السجائر، واكواب القهوة، والجرائد. بحثت عن موبايلي المفقود، في كل مكان في غرفة النوم والصالون والمطبخ والحمام، تحت الطاولات وفي فجوات الآثاث وبين الكتب وفي الزوايا، ووراء التلفزيون وخلف السرير ولكنني لم أعثر عليه، وكأن الشقة قد إبتلعته.

صور العاصفة المطرية، وباب الشرفة والعتمة.والموبايل المفقود، كل هذه الأشياء تستغرقني حتى الثمالة. أسدلت الستائر وانا أستعرض القنوات التلفزيونية وبرامجها الأخبارية. ثمة إغفاءة خفيفة تسربت اليّ وانا منهمك بالإستماع. لست أدري كم من الوقت غفوت ولكن صوت سقوط الأواني في المطبخ جعلني استفيق من جديد. اردت ان اعمل شايا، وانا أتأمل شظايا الأكواب التي سقطت وتهشمت. إرتشفت الشاي ببطء وانا المح خيالات غريبة تنبجس من الجدار، وسرعان ما تخبو. اشغلت نفسي في متابعة البرامج التلفزيونية، وانا مستلق على أريكتي واذا بكرة اشبه بالمطاطية تصطدم بقدمي. لبست ملابسي مغادرا الشقة ببطء، وكأني هارب من مخاوفي، وبقيت في المقهى القريبة من شقتي وحيدا محاطا بالحيرة والمرارة، لم اغادر تلك المقهى حتى أغلقت ابوابها.

اصبحت مترددا في ترك الشقة او البقاء فيها. لقد اصبح السكن عبئا علي، وكأنني أعيش مع كائنات غير مرئية تتعمد ايذائي. فقدت موبايلي الثاني الذي اشتريته بعد عدة أيام، وبعد جهود حثيثة، وجدته ملتصقا في تلافيف الأفرشة وكأنه جزء من النسيج.

كلما اغادر شقتي أحرص على ترتيبها وحالما أعود اليها أجد كل شيء مختلفا عمّا تركته.

حالما ياتي النهار، حتى يختفي كل شيء،المخاوف او الأوهام كما اسميها أحيانا. وتعود حياتي الى طبيعتها، فاسخر من نفسي الأمّارة بالسوء. أنطلق الى المقهى وسط المدينة في حي ( كليز) والتقي بالأصدقاء، حكايات عابرة نجترّها كل حين، نلهوا في حل الكلمات المتقاطعة، او نتصفح ضجيج الشارع، او نناقش اخبار الدوري الأوربي والفرق الكروية، نحتسي القهوة بالحليب ونضحك أو نصمت او نتحدث عن ارتفاع الأسعار، أو نتصفح وجوه النسوة العابرات. ولكنني لم أبح أو أعترف لأي من أصدقائي عما يحدث في شقتي، تركت ذالك سراً بيني وبين نفسي،أو خطا أحمر، وكأنني في محاولة لمعالجة الأمر ذاتيا. احيانا، تجتاحني فكرة ان ابوح بكل شيء، كي أتلقى بعض النصح والمعونة، ولكنني أتراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة. وحتى لو صودف أنْ نتعرض لموضوع مشابه. ألتقط الفكرة وأدير دفة الحديث، خائفا ومتوجسا من عدم تصديقي، اوإتهامي بالوسواس. لذلك سوّرت نفسي بسياج من التكتم، وكأني في حالة من الهلع والفراغ الروحي، حتى وجدت ذاتي قد تصدعت وأضحت شظايا تتمسك ببعضها بخيوط واهنة.

ذات يوم، وتحت ضغط الحاجة. ذهبت الى بيت زوجتي، التي إنفصلنا قبل عام، بعد أنْ وصلنا الى نقطة اللاعودة في خلافاتنا وطبيعة أمزجتنا. فتوصلنا الى الطلاق بشكل ودي.

طرقت باب أهلها.وحينما فتحت الباب بنفسها، صرخت مرعوبة وهي مندهشة من شحوبي، ومستغربة من مجيئي غير المتوقع ، فاعترفت لها بكل شيء، ابتداءا من العاصفة المطرية، وأصوات الليل، وضجيج الجدران.

- قالت بصوت مشوب بالخوف، بينما وجهها يطفح بالحزن والحيرة.

- اعتقد أنك مسكون بالأسياد. أنت مسحور

وحينما رمقتها مستفسرا، أضافت : شقتك مسكونة بالأسياد، وعليك ب ( ألرُقْيَة) او أبطال السحر."

     هذا ماحدثني به صديقي إبراهيم الصفار،الذي زرته في مراكش اليوم. وقد كان في قمة الفرح بقدومي، محاولا أنْ يريني بعض ملامح المدينة التي أصبحت تمثل له الكثير، فقد أحبها بعمق، وعاشها بكل كيانه. وقد أكد لي انني من القلائل الذي يبوح لهم بهذه الأسرار والتجارب المشوبة بالقلق. اقترحت عليه أن نذهب الى ساحة الفنا. وافق على الإقتراح بكل سرور.

ثمة سيل بشري يتجه الى الساحة من كل حدب وصوب، وكأنها دوامة هائلة من المد والجزر البحري، تحمل القادمين وتدور بهم ثم تبتلعهم في حلقات من الفرح والتأمل والفرجة،إنّها طقس لإستعراضات غير نهائية، تكرر نفسها بدون ملل. جميع من في الساحة يستعرضون أنفسهم بطرائق مختلفة،النسوة المتبرجات وشباب المتع الطارئة والباعة الذي يعتمد رزقهم اليومي على عنصر المصادفة والإلحاح، والسواح المنبهرون بالمشاهد الغرائبية، وعربات الجياد. إنه الزحام اليومي الذي يبدأ في المساء، وتشتد ذروته في بداية الليل وكأنه جزء من روح الساحة التي لاتشيخ.

أشار لي ونحن لانسمع بعضنا من ضجيج الدفوف.بأنْ نرتاح قليلا في مقهى على أطراف الساحة. شربنا قهوة بالحليب وهو مستغرق في رسائله الألكترونية. حاولت إستدراجه من جديد لإشباع فضولي ولإستفزازه، كي أستلُّ منه بعض الجوانب الخفية من حكاياته المتقطعة والمثيرة للغرابة.

قلت له : يعتبرُ الباحث الفرنسي إدوارد تايلور أنّ السحر يقوم على الخلط بين الإتصالات الفكرية ونظيرتها الواقعية.

أغلق موبايله وكأنه ينتفض ليرد اتهاما فوجيء به.

- أعلم ذلك، واعلم بمسالة خداع المخ، فقد يرى الإنسان أشياء لاوجود لها،لأن قشرة الدماغ صممت بحيث إذا تمّ التركيز على منظر ما، فان بقية أجزاء القشرة المسؤولة عن التركيز لاتعمل.

قلت له ضاحكا، لإمتصاص بعض توتره : إذن. كل حديثك عن الأسياد كان عبارة عن قشرة دماغ لاتعمل !

لم يجبني مباشرة. وكأنه يحلّق في غيمة من الصمت، بعد وقت تخيلته دهرا، أجاب :

- اتفق معك إنها خرافة. ولكن الخرافة التي يؤمن بها الأكثرية الساحقة تتحول الى حقيقة، ثم بدأ يسهب في تصوراته

" كيف يمكن ان اصل الى إبطال السحر المفترض. ؟

إستعنت بناس من أهالي مراكش، فوصفوا لي أن أذهب الى ضريح سيدي عبد الرحمن في الدار البيضاء،او مايسميه العامة ب ( مول المجمر) حيث يعتمدون هناك على التبخر بالرصاص المذاب. وقد شعرت هناك بالإثم ّ، فقد صفعني مرأى الناس اليائسين والذين يؤدون طقوس الشفاء. كانوا يتدفقون على وهم العلاج الذي يتمّ بطرق بدائية مخيفة، هي مزيج من الشعوذة وتدمير الأعصاب..فرفضت التداوي، وبررت ذالك بأني قادم لزيارة الولي.

عدت من جديد الى مراكش لأبحث عن الفقيه ( بو جمعة ) والذي يستطيع أن يفعل المعجزات، كما قيل لي. كان البحث عنه في أحياء ودروب المدينة مسالة ليست هيّنة. أحيانا أتراجع عن البحث واستسخف الفكرة، واحيانا ابقى الليل على وهج القلق والخوف من الحركات المرعبة، والأصوات الغريبة، وكأنّ ثمة وجوها تراقبني من خلال مسامات الجدران.تحيطني بضجيجها، فوجدت أنّ أحسن طريقة لطرد هذه المخلوقات، هو إبقاء كل الغرف مضاءة، بما فيها الحمام والمطبخ والبالكون، كما أبقيت جهاز التلفاز مستمرا في تقديم الأغاني. وكان العلاج ناجعا لبعض الوقت، فقد إختفت الأصوات والحركات، مما أشعرني براحة بالغة وقد تكرر هذا الهدوء لأيام غير قليلة، حتى نسيت كل شيء، وبدأت حياتي تسير على منوال مغاير. وفي ليلة مقمرة نمت مبكرا، إمرأة أومأت لي في ذروة الزحام كانت تستحِثُّ مكامن العطش في صحرائي المجدبة، دعوتها الى شقتي، تجاذبنا اطراف الحديث، واعلنت رغبتي بالإقتران بها بيد أنها اجابتني بغنج محوّلة دفة الحديث، أبدت إعجابها بجهاز التلفاز , واقترحت أنْ نجلس معا على الشرفة، كما رغبت في نقل التلفاز الى الشرفة ايضا.ومع غرابة الطلب فقد بذلت جهدا لتلبية ما أرادت، ثم قمت بنقل الطاولة وكرسيين، وكانت فرصة أنْ نعيش لحظات رومانسية،تحت ضوء شاحب لقمر يُطِلُّ بين السحب. في الصباح ايقظني شعاع الشمس الذي تسلل خلسة عبر الستائر.لم أجد اي أثر لتلك المرأة، فاعتبرت أنه حلم جميل مرّ علي، ولكن الذي أثار فزعي هو أنني وجدت جهاز التلفزيون مسمرا على الشرفة يتوسط كرسيين وطاولة.

أصبح البحث عما يسمى الفقية بوجمعة مطلبا ملحّاً. انطلقت صباحا الى المدينة القديمة، مررت بالسوق عبر باب تاغزوت، دخلت حومة القاع، ومنها الى سويقة سيدي بلعباس. وهناك ارشدوني الى درب العرصة قريبا من الزاوية العباسية.كانت دار الفقيه جزءا من المكان. سقف صغير لايبعد عن الأرض، ودرب ضيق يقودك الى باحة الحوش الموحشة. فوجئت به فقد كان شابا لايتعدى الثلاثين من عمره. يبدو ذلك من شعر لحيته. لبس جلابيته على عجل وركض معي الى شقتي التي وصلناها في الظهيرة. وكخبير في شؤون المكان قرأ بعض انواع الادعية، ثم فحص كل جوانب الشقة والتفت اليّ وهو يبسملُ :

- لاتخشى فالأسياد مربوطون في المنزل فقط. لم يستطيعوا النفاذ الى جسدك.

استمر في أدعيته. بعضها كان مسموعا " اللهم من كان منّا مسحورا، سواءا كان السحر مأكولا او مرشوشا أو مشموماً..اللهم فابطله بقدرتك..اللهم..." هذا ما إستطعت إلتقاطه من همهماته التي كان يحفظها عن ظهر قلب..بعد ذالك تناهى الى اسماعي صوت كأنه إنفجار، وكأن الجدار قد تهشم الى شظايا.. ثم انتشر صمت هائل، وحينما فتحت عينيّ، لم أر سوى الفقيه يجثو على ركبتية ويبتسم.

- لقد رحلوا، لاتخشى شيئا. هذا ما قاله وهو ينفض جلابيته من الغبار.

إنسحب الفقيه بعد أنْ أكمل مهمته، فدسستُ في جيبه بعض النقود، وبقيت وحيدا، أحدّق في المرآة. كان وجهي شاحبا، وعيوني غائرة تحيط بهما هالتان داكنتان، كنت أتحسس ملامحي، وكأني أتأكد من نفسي، تراجعت الى غرفتي. ورميت جسدي المنهك على الفراش. وجدت نفسي مرتدياّ جلابية بيضاء، حينما تعالت اصوات الدفوف وابواق السيارات، وضعوني في سيارة بيضاء، محملة بالأشرطة والورود تتبعها سيارات عديدة، جموع من الناس يغنون بحماس، بينما تجلس جنبي تلك المرأة التي شاركتني جلسة الشرفة وقد إرتدت ثوب العرس، وتأطرت باكاليل الزفاف. ثمة عطر يفوح من جسدها. مما جعلني أغرق في نشوة الفرح. كان موكب العرس ينأى، وشيئا فشيئا تخفتُ أضواء مراكش،والناس يبتعدون عنّا. بقيت وحيدا وإيّاها، تبتلعنا ظلمة الليل،والعيون الذئبية الراكضة. أمسكت بها للهروب معا من هذه العتمة التي أغرقتنا، ولكنها لم تطاوعني، وحينما ضغطت عليها بإتجاه بصيص من الضوء، أفلتتْ من يدي وتركتني وحيدا، اتخبط في الفراغ..لاادري هل نمت يوما كاملا أم دهرا، حينما فتحت عيني كنت اشعر باني خفيف كالريشة، قادر أن أتسلق او أنْ اطير. "

كان صاحبي ابراهيم الصفار منسجما مع تخيلاته، حتى ونحن نأكل الطنجية في المطاعم الشعبية التي تستقر في قلب الساحة وبين الزحام والأنتظار واصوات المارة، وصهيل الأضواء.

اكملنا العشاء وانطلقنا الى شقته التي اشتراها قبل سنوات بعد ان ترك شقته القديمة الكائنة في درب السلطان.

- هل تعتقد، بالسحر ؟ استفسرت منه ونحن نحتسي الشاي في شقته الجديدة جنوب المدينة، حيث اصوات القطارات النازلة من الدار البيضاء او الصاعدة اليها، وحيث نهاية السكك الحديدية.

وكأن السؤال استفز فيه بعض المكامن الخفية

أجاب بالنفي، ثم أضاف :

لكني عشت تجربة مرّة على صعيد الحلم والواقع، وكأن الأشياء تسير بشكل مغاير للقوانين الفيزياوية، حيث كنت اشعر بان ثمة قوة غامضة تنتظم بصورة منافية الى القوانين العلمية التي أعيشها !

صمتنا معا وكنت انتظر منه تفسيرا آخر، لكنه تلثّمَ بالصمت.

وكجزء من كرم الضيافة التي تحلى بها صاحبي، فقد اقترح ان أنام في فراشه،لينام كعادته في الصالون، وقد قاوم كل رفضي بحجة أنه سيسهر أمام التلفاز. فرضخت للأمر ولكنني لم أستطع أن أنام. مرّ شطر كبير من االليل، وانا أجلس على حافة الصمت والمخاوف. أغفو وأستيقظ على وهج الأخيلة، واسمع شخيره في ألغرفة المجاورة ممتزجاً مع اصوات القنوات الفضائية وهي تستعرض برامجها.

في الضحى ونحن نحتسي الشاي قلت له:

هل فعلا ما حدث لك؟

أجابني وشبح إبتسامة تلوح على محيّاه

بكل صراحة، لست متأكدا من ذلك. –

 

رحمن خضير عباس

 

في نصوص اليوم