نصوص أدبية

الأرجوحة والمنبر

hamed-fadil إذا هَمَّ شهر شعبان بالرحيل، ارتفع من منارة جامع القشلة صوت المؤذن قبيل كل أذان مهللاً ومرحباً بمقدم شهر رمضان:

(أهلاً.. أهلاً يا رمضان

شهر الطاعة والغفران

أُنزل فيه القرآن

مرحباً.. مرحباً يا رمضان)

حتى إذا اختفت من أُفق المغرب آخر شمس لشعبان.. انتشر الناس هنا في المدينة، أو هناك في البادية يترقبون الهلال، فترى الحضر على حافة النهر، أو فوق سطوح المنازل، وأعينهم تبحث بين طيات عمائم النخيل عن هلال نحيل يطرز عباءة المساء، أو ترى البدو فوق ظهور القارات، وأعينهم تحلق مثل الصقور صوب محفة عناق الزرقاء بالغبراء بعد اختفاء قرن الغزالة.. وهلال رمضان حين يهل لا يطيل المكوث، والذين يروه لا يتعدون أصابع اليد، ولو قيض لأحد أن يمر بمنطقة الغربي بعد الغروب، فسيرى خليطاً من البدو والحضر واقفين على باب دار الشيخ عبد الحميد السماوي، ينتظرون خروج من دخلوا ليدلوا بشهادتهم حول رؤية الهلال أمام الشيخ السماوي، حتى إذا ما اقتنع الشيخ، وهاتف المرجعية الدينية في النجف، أعلنت المنائر ثبوت رؤية الهلال، فيبيت السماويون على نية الصيام، الذي شملني حين أنهيت العقد الأول من العمر.

ــ أعرفت الشيخ السماوي، أو رأيته عن كثب؟

فاجأني الشيخ بسؤاله، فناولته صورة الشيخ عبد الحميد السماوي التي التقطتها من العلبة وأجبت بصوت متلعثم:

ــ لا أنا لم أر الشيخ أو أعرفه.

ثم تمالكت نفسي فأردفت:

ــ ولكني عرفت من جدي الذي أسف أيما أسف لرحيل الشيخ عبد الحميد السماوي إلى الدار الآخرة في العام 1964، أن الشيخ عبد الحميد الشهير بالسماوي هو ابن الشيخ أحمد بن محمد آل عبد الرسول الذي ينتهي نسبه الى قبيلة بني عبس التي تقطن وادي السماوة.. كان فقيهاً وفيلسوفاً، ومعلماً ومبلغاً لأحكام الدين، وإماماً للجماعة في مسجد السماوة الكبير، وشاعراً كبيراً.. لقد ظل أبي لعدة ليال غب وفاة الشيخ عبد الحميد السماوي يردد على جلاس خيمة الحكايات مستهل قصيدة السماوي، التي يخاطب بها النفس حتى حفظتها لكثرة ما سمعتها، فان سمحت لي يا شيخي أسمعتك مستهلها.

 تبسم الشيخ، فتسرب الشك اليَّ (أيعقل أن الشيخ لم يسمع بهذه القصيدة)، لكن ضباب الشك سرعان ما اختفى حين أشرقت شمس اليقين، إذ قال الشيخ:

ــ هات أسمعني مستهل القصيدة.

 تهيأت كما كنت أفعل حين يطلب مني مدرس اللغة العربية إلقاء قصيدة قدام الصف، وقرأت:

(لا بقا حتّى أمنِّيـــكِ البَقـــا            فاغدقـي جامَــكِ فيمنْ أغدقـــا

  هل تُرجِّين رَبيــعــــاً قادمــــاً        فلقدْ حـَتَّ الخريـــفُ الوَرقــــا

 كيفَ استبقي حياتي وعلـى           ضِــفتيها عدمــان اســـتبــقــــا

 عارضي موجَ المنايا تجدي         أســــعدَ الساعاتِ ساعاتِ الشقا)

أشار الشيخ اليَّ، فَصَمَتُ ظناً مني أنه سيكمل القصيدة، لكنه فاجأني مرة أخرى حين قال:

ــ أتدري أن الشيخ عبد الحميد السماوي كان يكره أن يُعرف شاعراً.

ــ  ألأنه كان رجل علم وإفتاء؟

ــ لا، ولكنه كان لا يترك شاعريته تسفر عن نفسها، بل يلفعها بعباءة تتمشى مع ما كان يقال في زمنه بأن الشعر (منقصة الكامل)، أو لأن فيه من السمعة والإشادة مما لا يرغب بهما الشيخ السماوي، ولهذا يقول:

(كفى بك جهلاً أن تراني شاعراً       وبي عطلاً أن كنت بالشعر حاليا

  فما مُلئت بالترهــــات حقيبتـــي       ولا أُفرِغت مخلاة قلبي مساويا

ترفَّعــت عنه إذ تزلَّف ضـارعـــاً        وأخضــعته لمّــا تجبّر عاتيــــاً

ولكنــــها آهـــات نفــس تفاعلـــت    جواهرها حتى استحالت قوافيـا)

احترت بعد سماعي هذه الأبيات من الشيخ النوراني، أحقاً كان الشيخ السماوي راغباً عن صفة الشاعر! أينأى بنفسه عن تلك الصفة من أبدع (فوق أثباج الطبيعة).. تلك الرباعيات التي رد بها  على رباعيات الطلاسم التي نظمها الشاعر اللبناني المهجري (إيليا أبو ماضي) عام 1940 فأثارت عاصفة من الإثارة والإعجاب، وأهتم بها المثقفون العرب كونها خلعت على الفلسفة (اللاأدرية) حلة جديدة خرجت بها على الشباب العربي من محراب عقيدة إنكار الوجود، لأنها اشتملت على أسئلة فلسفية عن الوجود والحياة منذ الأزل الى الأبد، حيث لم يجد الشاعر لأسئلته المحيرة غير تلك الإجابة المبتسرة (لست أدري) .. كان أبو ماضي يتساءل عن كينونته ومصيره وعن جدوى حياة مسيرة مقدرة:

(جِئْتُ لا أعلمُ مِنْ أين ولكني أتيتُ

ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيتُ

وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيتُ

كيف جئتً؟ كيف أبصرتُ طريقي

لستُ أدري؟)

فرد الشيخ عبد الحميد السماوي بقصيدة طويلة بلغت 124 رباعية ضمنها أجوبته على كل أسئلة أبي ماضي، حيث ختم كل مقطع  بلازمة (ليس يدري) التي رد بها على لازمة أبي ماضي (لست أدري) يقول السماوي

(جئت لا أعلــم إلا أننـــي جئــت لأعلــــــم

فتخطيت بكوني ساحة الكون المطلســـــــم

حيث ساد الصمتُ لولا وحي عجماء لأعجم

حيث لا هامس إلا وهو مثلي

ليس يدري!)

وتساءل أبو ماضي عن التسيير والتخيير:

(أجديدٌ أم قديمٌ أنا فــي هذا الوجود

هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيود

هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود

أتمنى أنني أدري ولكن

لستُ أدري)

فأجاب الشيخ السماوي:

(عدماً كنتُ ولكن لستُ ادري ما العدم

ماج تيـــار وجـودي بوجـودي واحتـدم

فإذا لـــي ألفُ لحـــن وإذا لـــي ألفُ فم

وإذا بي أتنزى في خليط

ليس يدري)

ولأن الشيخ السماوي كان يكره أن يُعرف شاعراً، فقد تبنى الكاتب رضا آل إسماعيل نشر رباعياته هذه ــ التي نُظمت على غرار رباعيات أبي ماضي ــ في مجلة العروبة تباعاً، مقطعاً اثر مقطع، حتى إذا اكتملت القصيدة، جمعها الصحفي محمد علي حوماني صاحب مجلة العروبة، ووضعها بين يدي الشاعر إيليا أبي ماضي، حين إلتقاه في نيويورك، فأعجب أبو ماضي بالقصيدة أيما أعجاب، وقد عبر عن ذلك في رسالة الى الشيخ عبد الحميد السماوي.. وسبق للحوماني أن زار الشيخ السماوي في بيته في السماوة، فراح يصفه الى أبي ماضي الذي كان متلهفاً لمعرفة شاعر قصيدة (فوق أثباج الطبيعة).. وما أن نُشرت القصيدة كاملة في مجلة المرأة السورية، حتى تلقى الشيخ السماوي رسالة من شيخ الأزهر محمد مصطفى المرغيني، يعرب فيها عن إعجابه بعلمه، وبلاغته، وجزالته في الشعر، ويعرض عليه كرسي تدريس الفلسفة الإسلامية في الأزهر الشريف.. كما أحدثت تلك القصيدة ضجة في محافل الفكر والصحافة، فانطلقت الدعوات من المؤسسات الثقافية والفكرية الإسلامية للشعراء المسلمين للرد على أبي ماضي، وتفنيد حجته في إنكار الوجود، وتلك هي صرخة الحق الجلية الظاهرة التي أطلقها الشيخ عبد الحميد السماوي:

(صرخة الحق ترامت في صدى الكون المرنِّ

وفــم العـــدل ينــــاغي كل ذي لـــحنٍ بلـــحنِ

إنْ تـــكن أذنك صـــــماء فمــــا ذنـــب المغنّــي

أو تكن لم تفقه اللحن فكم مَنْ

ليس يدري)

وختم رباعيته بقوله:

(إنِّني جئتُ وأمضي وأنا لا أعلمُ

أنا لغزٌ وذهابي كمـــجيئي طلــسمُ

والذي أوجـــد هذا فهو لغز مُبهــمُ

لا تجادلْ ذا الحِجا مَنْ قال: إنِّي

لستُ أدري)

تنهد الشيخ وصمت، فرحت أستعيد نفسي من سكرة الشعر، وسطوة شاعره، وملقيه.. أحسست بقشعريرة الخشوع وهي تغادرني بمثل البطء الذي تغلغلت به في جوارحي.. أمسكت بزمام المخيال، وصرت أوجهه حيث أبغي، لأتخيل الشاعر أبا ماضي جالساً الى مكتبه وقد فرغ لتوه من قراءة قصيدة (فوق أثباج الطبيعة)، التي حَلّقتْ عابرة البحار والجبال والوديان مثل طير مهاجر من مدينة فراتية في جنوب العراق تدعى السماوة إلى نيويورك على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، وجاءت لتحط على مكتبه مغردة باسم شاعر سماوي، لم يره، أو يعرفه، أو يسمع به، قبل قراءة رده على قصيدة الطلاسم، ثم أتخيل صديقه محمد علي حوماني أثناء زيارته إلى السماوة.. ها هو الحوماني ينزل من القطار القادم من بغداد، يتلفت في محطة السماوة، يقترب من أحد الرجال للسؤال عن الشاعر الشيخ عبد الحميد السماوي، فيفاجأ حين يخبره الرجل انه كان في انتظاره، ويساعده في حمل حقيبته، ويفاجأ مرة أخرى، حين يخبره الحوذي انه كان في انتظاره ليقله (بالربل) ليجد نفسه يجلس جنب شيخ مهيب يسأله عن أهل الجنوب في لبنان وعن أحوال الأدباء اللبنانيين في المهجر ويخص منهم شاعر الطلاسم إيليا أبي ماضي.

تنحنح الشيخ فأفلت مني زمام المخيال.. أفقت على سماعه يقول:

ــ ألم يسعفك خيالك لترى الشيخ عبد الحميد السماوي بشيبته الجليلة يجلس على بساط متواضع في (برانيته)، متكئاً إلى الجدار العتيق، ممسكا بالقلم والدواة، والأوراق البيض مفروشة أمامه تنتظر مطر الإلهام،  لتهتز وتربو، وتنبت من الشعر أجمل ما في القريض، تلك القصيدة الذهبية التي لم تتعد الخمسة عشر بيتاً، والتي جادت بها قريحة الشيخ السماوي في مدح الإمام علي بن أبي طالب (ع).

قلت: أليست هي تلك الرائعة الأدبية التي كتبت بحروف من الذهب على يسار الداخل الى الحضرة العلوية، وقد تشرفت، واستمدت نورانيتها، وخلودها، من صاحب المرقد الشريف؟

ــ نعم هي كما وصفت.. وقد أُختيرت من قبل لجنة خاصة من بين العديد من القصائد التي نظمها شعراء مشهورون.

ــ لا شك أنك تحفظها يا شيخي الجليل.

ــ بالطبع يا ولدي.. سأقرأ عليك مطلعها إن أحببت.

ــ  يسعدني ذلك يا شيخي.

سرَّ الشيخ لإجابتي فراح يسمعني بصوته الرخيم مستهل القصيدة:

(لِمَنْ الصُّروحُ بمجدها تزدانُ         وبباب مَنْ تتزاحم التيجانُ

  إنْ لم يقمْ رضوانُ عند فنائها        فلقد أقامَ العفو والرّضوانُ

وترنَّحــتْ بولاءِ آلِ مــحـمـــد        طرباً كما يترنَّحُ النشوانُ)

كنت قد انتشيت فصحت:

ــ الله .. الله.

فقال الشيخ: اسمع إذن البيت الأخير الذي يؤرخ به الشيخ عبد الحميد السماوي نصب الباب:

(حَسْبي إلى عفوِ الإلهِ ذريعةٌ       حرمٌ يؤرخُ بابـهُ الغفرانُ)

 الآن فسرَّ لي الشيخ لِمَ كان جدي وأبي معجبان بالشيخ عبد الحميد السماوي أيما أعجاب، ولِمَ كان السماويون يجلونه، وما يزالون إلى الآن يحترمون ذكراه.. عدت إلى صندوق دنيا رمضان، فمثلت بين يديَّ الصورة التي تكون عليها خيمة الحكايات في الشهر الذي فرض الله به على المسلمين الصيام، وقد حرص أبي عند تصويرها على إظهار الليلة الرمضانية بكامل اناقتها.. ربما فكر عندما دسها في العلبة بأني سأجدها ذات يوم، وهو ما يحصل الآن.. هذا جدي في متكئه المعتاد، رواد الخيمة لم ينقص منهم أحد، أو يزيد، متكأ شير علي قريب كما هو من دلات القهوة وكانون النار.. الجديد في الصورة هو صينيتا الزلابية والبقلاوة الموضوعتان إلى يمين شير علي، واللتان قد تغريان الذباب المستقر على سلك المصباح، فيغير عليهما، ثم يولي إلى مستقره هرباً من ذراع شير علي.. هناك في أعلى جدار الخيمة (الطارمة) يلتصق أبو برص، لا يتحرك إلا لالتقاط بقة يسوقها إليه القَدَرْ.. أنا على يقين أن صديق جدي، الحاج حسن كريم الممسك بكتاب ألف ليلة وليلة، هو سيد حكايات الليالي الرمضانية الظاهرة في الصورة، والتي أنا على يقين أيضاً من تغيير وقتها السابق، حيث كان مبتدأها بعد صلاة العشاء، ومنتهاها بعد وصول قطار الليل إلى محطة السماوة، لكن مبتدأها في رمضان يكون بعد الفطور بساعة، ومنتهاها بساعة قبل السحور.. وأنا رغم حرصي على حضور ليالي خيمة الحكايات، لا أجدني في صورة الليلة الرمضانية هذه، وذلك لأني أهرع بعد الفطور إلى فريق لعبة (المحبيس) الذي يقوده رحيم لوفي وهو المسؤول عن استخراج المحبس من الفريق الخصم،  حيث نعبر نحن فريق شباب القشلة جسر السماوة المعلق سيراً على الأقدام، متجهين إلى مقهى قرب سوق القصابين، لنجد فريق شباب منطقة الشرقي الذي يقوده كريم الدوش ينتظرنا.. بعد فترة المجاملات وشرب الشاي، يجلس كل فريق في المكان المخصص له من المقهى، ثم يبدأ قائدا الفريقين بالمزايدة على المحبس،  للاستحواذ عليه  لقاء التنازل عن بعض النقاط.. حتى إذا بدأت اللعبة، وخُبأ المحبس في يد من الأيادي الكثيرة، أظهر قائد الفريق الذي يطلب المحبس مهارته في معرفة اليد التي خبأ المحبس في كفها.. عن طريق الحدس، والنظرات التي يسلطها على لاعبي الفريق الخصم، وإذ يفشل في العثور على المحبس، يصيح بوجهه اللاعب الذي بيده المحبس (بات) ليكسب الفريق النقطة.. ليالي رمضان السماوية ليال جميلة، تزداد فيها نوافل الصلاة، الخشوع، القنوت، الدعاء.. موائد الإفطار التي تبدأ بالتمر واللبن، وتبادل الأطعمة والعصائر والحلويات بين العوائل المتجاورة.. معلم القراءة السمين الذي علمني في المرحلة الابتدائية، لا يفارق جامع القشلة في ليالي رمضان، فهو الذي يقرأ دعاء الافتتاح بعد الفطور، وهو الذي يقرأ دعاء السحر قبل السحور، ولا يتوقف إلا عندما يحين وقت  المسحراتي، أو (أبو طبيلة) كما يسميه السماويون، وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الشباب، يجوبون شوارع السماوة وأزقتها بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، يقرعون الطبول، الصنوج، الصفائح الفارغة، كي يوقظوا النائمين للسحور.. وأجمل ما في ليالي رمضان رغم جمالها، ليلتان الأولى ليلة القدر، حيث يقوم الناس بتوزيع الأكل مجانا، فترى البنات السماويات بعباءاتهن الجميلة، وهن يحملن الصواني المليئة بأنواع الأطعمة لإيصالها الى البيوت، أما الرجال فأنهم يتجمعون في المساجد ليلاً لأداء صلاة ليلة القدر ومنها مسجد القشلة الذي كان يؤمهم فيه الشيخ محمد رضا والد الشيخ مهدي السماوي الذي أعدم في مستهل ثمانينات القرن الماضي بعد اتجاه مظاهرة المصلين التي خرجت من جامع الشرقي الكبير الى الزقاق المؤدي الى بيته في بداية السوق المكشوف.. والثانية ليلة العيد، حين تأتي الموافقة من بيت الشيخ عبد الحميد السماوي بثبوت رؤية الهلال، وما أن تعلن المنائر ذلك، حتى ترشق البنادق سقف السماوة بالعيارات، فيبدو منظرها في الليل كشهب تطارد الشياطين.. أصعب ما كنا نعانيه في ليلة العيد هو الحصول على مكان في حَمّامْ السوق، رغم وجود ثلاث حَمّاماتْ كبيرة في السماوة، هي حَمّامْ عفريت، حَمّامْ الفرات، الحَمّامْ الحسيني، والتي تخصص فترة الصباح للرجال، وفترة العصر للنساء، لكنها في ليلة العيد تستمر باستقبال الرجال حتى الصباح، ولأن أبناء القشلة تعودوا على الاغتسال في حمام عفريت، فقد كنا في ليلة العيد ننتظر الى ما بعد منتصف الليل، كي يخف الزحام قليلاً ثم ندخل الحمام للاغتسال، بعد أن نكون قد اشترينا كيلو برتقال من أبن ورواش البقال لنأكله في الحمام.. هناك طرفة تتعلق بالحَمّام في ليلة العيد ما تزال عالقة في أسكفة ذاكرتي الى اليوم.. كنا قد انتهينا أنا وصديقيّ عادل وصباح وابن خالي مجيد من الاغتسال في ساعة متأخرة من ليلة العيد، بعد أن حصلنا على مكان بشق الأنفس، وبعد أن أجهزنا على كيلو البرتقال. ونشفنا أجسادنا بشكل جيد خوفاً من البرد، وشربنا الدارسين. خرجنا من الحمام، وعبرنا الجسر العتيق باتجاه أهلنا في القشلة.. كانت البلدية كعادتها قد شقت نفقاً ولم تردمه، فامتلأ بمياه الأمطار، وتحول الى وسط آسن ملئ بالضفادع والبعوض.. قفزنا عبره كما في كل مرة، باستثناء مجيد أبن خالي، الذي أحس بشىء يكتف ساقين، فسقط في النفق الآسن.. ضحكنا ليلتها كثيراً حين اكتشفنا أن مجيد بعد أن ارتدى ملابسه نسي أن ينزع إزار الحمام.. حين كنا صغاراً نستيقظ مبكرين في صباح العيد، وبعد أن تمتلئ جيوب ملابسنا الجديدة بالنقود، نذهب الى مكان العيد، وهو ساحة ترابية محصورة بين السينما وسكة القطار.. هناك نتوزع أنا وأبناء خالتي وأصدقائي بين الأراجيح المعمولة من جذوع النخيل، ودولاب الهواء اليدوي الذي يدور بنا، وصوت صاحبه يلعلع: (لا ترحون للمطعطع.. تعالوا للجمالي)، وحين نمل من التأرجح بالأراجيح، نذهب لركوب العربات، أو الخيل، ونختم نهارنا بشراء لفات طعام نلتهمها، ثم ندخل السينما بما تبقى معنا من نقود.. كم هي كريمة هذه العلبة التي أسعفتني بصورة لذلك العيد البسيط، البرىء، النقي، الجميل، الذي سرقه منا مفتعلي الأزمات، ومشعلي الحروب، ومسببي الحصار الاقتصادي.. الفترة الزمنية بين عيد الفطر، الذي يسميه أهلنا العيد الصغير، وعيد الأضحى، الذي يسمونه العيد الكبير. لاهي بالطويلة، ولا هي بالقصيرة، لذا لا يرفع أصحاب الأراجيح أراجيحهم عند انتهاء عيد الفطر، بل يتركونها في أماكنها بالساحة الترابية بعد لف حبالها لتقليص طولها، بحيث تصبح جذوعها عالية، فلا تنوشها أيادي الأطفال، يفعلون ذلك كي لا يتجشموا عناء نصبها مرة ثانية في عيد الأضحى، الذي لا يختلف الاحتفاء به عن عيد الفطر، سوى أنه يزيد عليه بيوم واحد.. والذي ما أن تمر أيام على انتهائه حتى تتشح المدينة بالسواد استعدادا لاستقبال شهر محرم الحرام، حيث تحي المدينة ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، الذي أُستشهد في واقعة الطف الشهيرة في اليوم العاشر من محرم سنة 61 هجرية في عهد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية.. حيث يقيم السماويون مواكب عزاء عاشوراء ابتداءً من اليوم الأول من محرم حتى العاشر منه، ومن المواكب الكبيرة في السماوة موكب الحاج مجللي في منطقة القشلة، الذي يغير (رادوده) في كل عام بسبب استقدامه لرواديد من الدرجه الثانية، لضعف إمكانية الموكب في توفير أجر رواديد الدرجة الأولى، بينما كان موكب الشرقي الكبير يمتلك المقدرة المالية، التي تمكنه من استقدام الرواديد المشهورين في ذلك الزمان، أمثال عباس الترجمان، ومحمد باقر الأرواني، أما موكب شباب الشرقي الذي يتكئ منبره الى جدار بيت الشيخ عبد الحميد السماوي الكائن في الشارع الذي يسميه الأهالي (شارع باتا) ــ لوجود وكيل شركة الجلود العراقية فيه ــ فإنه لا يرضى إلا بأبي جبار الرادود بديلاً للملة فاضل، الذي عُرف بصوته الجهوري، وقصائده السياسية.. أتذكر أني سمعته مرة يقرأ وصوته يلعلع على المنبر: (شالوا رشاش ويخطب عماش)، كان ذلك طبعاً بعد انتهاء فترة الحرس القومي.. وهناك موكب آخر في منطقة الشرقي هو الجديدة، المعروف بموكب الحاج كاني.. أما منطقة الغربي فقد اشتهرت بموكب حسون الدفاعي الكائن على الكورنيش، والذي كان رادوده عبد الرزاق محي الدين المعروف بأبي ماجد لا يقل خطراً عن الملة فاضل في مخاطبة المشاعر عن طريق القصائد السياسية، التي تجد لها صدى عند الناس في بلد لم يعرف الاستقرار منذ مقتل الملك فيصل الثاني، وحتى هذه اللحظة التي منحتني فيها العلبة صورة أكبر، وأروع، واخطر موكب، وأعني به موكب الجمهور الكبير الكائن  في الزقاق المعروف عند السماويين ب (عجد موسكو) بسبب كونه موكب القوى الوطنية المناضلة، وهو الموكب الوحيد في السماوة، الذي لا يستقدم رادوداً من النجف الأشرف، أو كربلاء المقدسة. بل يكتفي برادود من أهل السماوة هو الرادود المعروف ابن صنكر، ولهذا الموكب شهرة واسعة ليس في السماوة فقط، وإنما في كربلاء أيضاً حين يشارك هناك في إحياء ذكرى أربعينية الإمام الحسين (ع)، وتلك الشهرة ليست متأتية من السمعة السياسية للموكب فقط، وإنما من طول عزائه، الذي يشغل المساحة الطولية للسوق المسقوف عند استعراضه فيه.. سأستعين بصورة الموكب لتحريض الذاكرة، كي أتمكن من وصفه كما كنت أراه.. يتعين على كل من يرغب في رؤية موكب عزاء الجمهور أن يتوجه الى السوق المسقوف بعد صلاة المغرب مباشرة، كي يتمكن من الحصول على مكان يجلس فيه، أو يقف في انتظار نزول الموكب الى السوق، ذلك النزول الذي يستهل عادة بالمولدة الكهربائية، التي يسحبها أحد الرجال قدام الأستاذ المسيحي حنّا الذي كان معلماً في قسم الكهرباء في إعدادية صناعة السماوة، وهو المسؤول عن مراقبة المولدة وتصليحها عند حصول العطل، والمولدة هي التي تزود بالكهرباء الهودج الكبير، الذي يحمله رجل يمتلك الى جانب بسطة الجسم قوة الإيمان بطقوس التعزية الحسينية، التي تمكنه ليس من حمل الهودج، الذي يشبه السفينة فقط، وإنما بالدوران به قدام الموكب.. ويأتي تميز هذا الموكب عن بقية المواكب في السماوة من كثرة الحشد من لاطمي الصدور في ما يعرف بالتعبير الشعبي ب (الدستات)، وبالإيقاع المميز، والمستهلات الدالة الموحية، التي يكتبها الشاعر عبد الحسين الشيخ موسى خصيصا لموكب الجمهور، الذي يتعب رجال الشرطة، ورجال الأمن ــ على كثرتهم ــ طيلة الأيام العشرة الأولى من محرم.. أتذكر أن أبي كان يلتقط الصور التذكارية للناس في مقرات المواكب، أو أثناء مرورها في السوق المسقوف.. ثم أتذكر أني كنت مع ثلة من أصدقائي، حين نادني أبي في ليلة العاشر من محرم، (وهي الليلة التي لا تنام فيها السماوة من أفول الشمس، حتى بزوغ نجمة الصباح) ليدخلني في أحد المحلات، كان المحل شبه مغلق، وكان القلق بادياً على أبي، قال:

ــ شوف، فَتِحْ عينك زين.

وأضاف، وهو يخرج من حقيبة الصور التي يحملها، رزمة أوراق:

ــ هذه المناشير وصلت توا من بغداد.. وهي على غاية الخطورة.. خبأها في جيب سترتك الداخلي، وأسرع بها الى البيت، لا تخف أبني  وكن رجلاً مثل أبيك.

في اللحظة نفسها التي انسل فيها أبي مسرعاً من المحل، شعرت أني صرت رجلاً يعتمد عليه.

 

حامد فاضل

 

في نصوص اليوم