نصوص أدبية

إزارُ أمي أزرق

abdulfatah almutalibiعَلَتْ جلبةُ اللاعبين الصغارِ وثارتْ رمالٌ تحتَ أقدامِهمُ الحافيةِ في إزقةِ (الحلفاية)*الترابية، والرمدُ الصديدي يُلصقُ جفنيّ ببعضهما فلا أرى شيئاً، قبل ذلك الرمد اللعين لا مَتعةَ تعدلُ أن أكون معهم وسطَ الرمل الرخو في ساحة الملعب المنبسطة بين البيوت، الزقاقُ كلهُ غارقٌ في الغبار إلا الملعب، من أين جاء رمل الشاطئ الأخضر اللدن إلى هذه البقعة والبحر بعيدٌ؟ ...بعيدٌ جداً والنهرُ يتجنبها منفلتاً باتجاه هور السِناف* المُختفي وراء أكمات القصب، كان الملعبُ على الجانب الأيمن القصي من الزقاق، شتاءً تغرق (الحلفاية) كلها في طين المطر إلا هذه البقعة، على رملها الأخضر المنبسط ندحرجُ كُرَيّاتنَا الزجاجيةَ الملونةَ ونلتقط السعادة بمناقيرَ ونصفق بأجنحةٍ لا أحدَ يراها مثل صغار القطا بين العاقول* حتى المساء عندما نعود إلى بيوتنا وقد استحلنا إلى جِراءٍ صغيرةٍ هدّها الجوع وهي تريد أن تلحسَ أي شيء، (سعيدٌ) أكثرنا ثراءً فهو يملك جوربين ممتلئين بتلك الكريات، ثروةٌ حقيقيةٌ كنا نحسدُهُ عليها، إمتلاكُ جوربين مليئين بتلك الكائنات الملونة كان حظاً حسناً، أما أنا فلي منها نصف جورب أتحسسه بين الفينة والأخرى تحت وسادتي في محنتي هذه، أتوقُ إلى الخلاص من هذا الرمد القاسي بيد أنهُ يمعنُ بتعذيبي وإبعادي عن السعادة، الأطفال يلعبون بينما يملؤني شعورٌ بانعدام العدالة وفداحة الخسارة حينَ تتسرب الصباحات النديةِ هباءً من بين ثقوب وجودي دون أن أستطيع منع ذلك، بكيت بمرارة لكن ذلك الصمغ الشمعي الذي يلصق جفني لم يسمح لدموعي بالإنهمار وحين واصلتُ صُراخي ربَتَتْ أمي على كتفي ووضعت في فمي قرصَ النعناع الذي تحشره في فمي في مثل هذه الأحوال وقالت:

- الصبر يا ولدي .. الصبر

- .آه...آه ؟

لم يكن لدي شيءٌ لأردّ عليها غير الآه.

وعندما ابتلعتُ قرصَ النعناع بعد أن مصصته انتفخت عيناي جرّاءَ تلك الدموع المالحة المحتبسة بين الحدقة والجفن ورحتُ أصرخ مرةً أخرى وأمي تقول:

- الصبر يا ولدي ...الصبر..أللهُ مع الصابرين.

نمتُ على رنّةِ صوتِ أمي ولكنّ أذُنيَّ ما زالتا تغادرانني إلى ساحة الرمل وكرات الزجاج الملونة ومرح الأطفال .. وقبلَ أن أغفوَ دثرتني أمي بإزارها قلتُ لها ما لون هذا الإزار يا أمي فأنا لا أراه أجابت: إزاري الأزرق ثم غادرتني ولم تعد، انتظرتها طويلا تحت الإزار وأنا أتمتم إزارُ أمي أزرق*... أزار أمي أزرق حتى غفوت وما زلتُ أواصل نومي وانتظاري تحته وما زال صمغُ الرَمَدِ يغلق عيني على الرغم من أنني كبرتُ كثيرا تحت ذلك الإزار وأثناء ذلك غادر الجميع إلى حيث لا أدري وانقطعت أصوات اللاعبين أو صارت أكثر نأياً وقد خَلَتْ منْ ذلك المرح القديم، لم أعد أميز صوت (حسن) ولا زعيق (إبراهيم) وواصلتُ انتظاري تحت إزار أمي الأزرق، غادر الشتاء وحلّ صيف آخر وجفّ النهر وأتى غُرباء كثيرون، أحدثوا جلبةً أفزعت الطيورفطارت بعيداً، قطعت البحار والفيافي ومات بعضها أثناء ذلك وضجيج الغرباء يتعالى، صحيح أن عينيّ مرمدتان لكن قلبي الصغير كان يرى وإن كنتُ ما زلتٌ تحت إزارِ أمي الأزرق، رأيتهم وهم يثقبون ذلك الرمل الرخو في ساحة الرمل، لم يكن هناك أثرٌ لكرياتنا الزجاجية، كانت آلاتهم تثقب ثقوباً غائرةً يولجون فيها قضبانا تلمع، وضعوا في المنطقةِ إشارات على أعمدةٍ من حديد غرزوها في قلب الرمل وتركوا عساكرَ تحرسُها ثم غادروا، فتحسس كل منا ألماً في قلبه، حصل كل ذلك ولم أستيقظ، كلما هممتُ أن أفعل ذلك تأتي أمي التي ذهبت بعيدا لتهمس في أذني: -الصبر يا ولدي وتحشر قرص نعناعٍ في فمي وشيئا من الصبر في مكانٍ ما من رأسي وما زال الصبر معي ولم يغادرني منذ قرص النعناع الأول الذي لم أرَهُ بسبب الرمد، كان رفيقي في الحلم الذي لم أستيقظ منه بعد ولن أفعل ومازالت أمي تواصل التزامها بتذكيري وهي تهمس في أذني:

- الصبر ... الصبر ياولدي .. الله مع الصابرين.

لم أجرؤ أن أقولَ لها بأن قرصَ النعناعٍ قد فقد مكانتَهُ في ذائقتي واستشرى من جراءه قرفا مريعا ولا على سؤالها متى توقظينني يا أمي؟ وهل سأرى ساحة الرمل وألعب بكريات الزجاج ومن هؤلاء الذين ثقبوا ملعبنا الرملي وأين ذهبَ سعيد والآخرون؟ وأسئلةً أخرى كثيرة وتعالت أبراج الحديد فوق ملعبنا الرملي وتكاثر الغرباء، .. مر كثيرٌ من الوقت حين جاءت أمي من بعيد، نادتني باسمي فتبعتها مُتسرنماً إلى باب النفق الذي دَلَفَتْ إليه واختفت فيه قبل ذلك، كنت أنتظر أن تهمس في أذني كالعادة لكنها لم تفعل بيد أنني سمعتها أو أظن ذلك تتمتم:

-الثقوب كثُرَتْ يا ولدي واشتعلت النار في ملعب الرمل ولا بد لي أن أصطحبك، هم يدحرجون كريّاتٍ من نار......

لم أسألْها بعد ذلك أبدا فقد كان الصمتُ هناك مهيبا، أُغلقَ بابُ النفقِ، ثم مضى الجميع ومازلتُ مغمضَ العينين تحت إزار أمي الأزرق، تحول الصبرُ إلى حجرٍ أصمّ ومازال معي لا يريد أن يغادر.

 

عبد الفتاح المطلبي

 

في نصوص اليوم