نصوص أدبية

ابن الأخت

saleh alrazukلم تكن زوجتي تمرد قد زارت اسطنبول في حياتها. لم ترافقني في العام الماضي، فضلت أن تذهب مع أختها اللئيمة إلى بيروت. ونظرا للثناء الذي سمعته مني، والصور التي شاهدتها، لم تكن مستعدة لتفويت الفرصة في هذا العام.

قالت: سأرافقك في هذه الرحلة.

- وأختك؟.

ليس لديها نية للسفر. ابنها مريض. وربما يحتاج لرعاية.

لم تكن علاقتي مع أخت تمرد طيبة. فهي تميل للخشونة قليلا. وتعتقد أن هذه صراحة. وزوجها مادي جدا. ينفق أية جلسة في الكلام عن النقود وطرق جني المال. أشعر بالضجر من مجرد فكرة اللقاء به. وأهرب منه حتى في الأعياد. ثم له شوارب صفر كأنها مصبوغة بالنيكوتين مع أنه لا يدخن. وأتقزز منها.

نعم.

أتقزز من شكله السافر. أحيانا أعتقد أن في صدره بدل القلب حصالة نقود.

كان الوقت حوالي الظهيرة. فأخبرتها أنني سأرتاح قليلا ثم أذهب إلى الخطوط الحديدية، وأحجز بطاقتين.

اعترضت فورا بقولها: ستسافر بالقطار؟.

نعم. في العام الماضي سافرت به. ويا لها من رحلة ممتعة.

أنا لا أحب القطارات.

قالت ثم ألقت كامل ثقلها على كرسي خيزران. مسكين هذا الكرسي. يتلقى صدمة نوبات غضبها دائما. تقفز عليه كأنه حمار.

ولم أجد سببا لهذه الكراهية. فسألتها: وكيف نذهب إلى تركيا إذا؟. مشيا على الأقدام أم ببساط الريح؟!.

قالت: ألم تسمع باختراع اسمه طائرة؟.

ثمن بطاقة الطائرة مرتفع. والأجدى أن نستفيد من الفرق بجولة على عدة مدن.

لن أسافر إلا بالطائرة. ولا أفكر بغير اسطنبول. لم يمدح أمامي أحد لا مرسين ولا إنطاكية..

وانتابتني ثورة مكتومة من السخط. بدأت عقلية الزوجة الشرقية بالابتزاز وتخريب المزاج. وندمت فعلا لأنني أخبرتها بخطة لهذا الموسم. لو تركتها مشغولة ببيت أختها وبعلل وأمراض ابنها. ابن صاحب الشوارب الصفر. ربما كنت أستمتع بجو الحرية المنشودة.

حريتي.

هذه الدجاجة المسكينة التي وضع الزواج حد السكين على عنقها. مسكينة أيتها الحرية.

وسمعتها تنادي من خلف ظهري: إلى أين. لم نتفق بعد؟.

كنت قد سلمت أمري إلى إرادة الزوجة الحديدية. الجنس الحديدي. يا لها من طرفة.

لو داروين على قيد الحياة ربما رأى أن المرأة دخلت في طفرة. ولم تعد جزءا من الجنس اللطيف.

قلت لها: بعد أن أرتاح سأسأل عن رحلة اسطنبول. متى وكيف...

باختصار نقلت لها ما يدور في رأسي من تبرم. مرفقا بالاستسلام.

لقد أثرت ظروف الحياة بي بعد الزواج. وتحولت إلى إنسان مكيافيلي. هكذا يشتري الإنسان راحة باله.

***

لا أعلم في أية ساعة رن جرس الهاتف. كنت مثقلا بتعب النوم. وعندما حاولت أن أتململ على السرير كان رأسي بثقل الرصاص. فوضعت الوسادة فوقه. كاتم صوت. عازل. سدادات أذنين. وغاب صوت الهاتف خلف هذا السد نصف المنيع.

وسقطت في غياهب النوم اللذيذ مجددا. ورأيت أرنبا مذكرا يطارد أرنبة لا تريد أن تقترب منه. أذناها مشرعتان بالهواء. من الخارج يغطيهما زغب أبيض ومن الداخل بلون أوراق الزهرة في الربيع. يا له من حلم. يهذب الرغبات المكبوتة التي تحتاج لتصعيد. ثم فجأة انفجر الموبايل الموجود بجواري على كومودينة صغيرة.

لا بد أنها هي. لا أحد يعرف كيف يزعجني غيرها. تمرد عبقرية في الإزعاج. دكتوراة إزعاج.

ضربت الجدار بالوسادة وأفلتت من فمي شتيمة. رنت في رأسي، وخجلت منها. وبدأت أحاول تبريد المرجل الذي يغلي في قلبي بينما الموبايل ينفجر بنوبة ثانية من الرنات.

***

قلت لها: نعم؟. هل تعلمين أنني لم أرقد إلا نصف ساعة؟.

قالت بلغة تكسر نياط القلب: آسفة. أنا أكلمك من بيت أختي..

أعلم أنك تكلمينني من بيت البومة...

كنت أسخر في سري من أختها وزوج أختها. أخترع لهما أسماء تعبر خير تعبير عن رأيي. عن لا جدوى هذه النماذج الميتة من البشر. وهذه أول مرة يفلت لساني بسخرية علنية.

سألتني: بيت البومة؟...

وهل لديها غير التنغيص..

يا لقسوة قلبك. أعرف أنك لا تحبها.

هل اتصلت لتخبريني بهذا الكلام؟.

طبعا كلا. ابنها يحتاج لعملية.

وتنهدت من أعماق قلبي. أخيرا العناية الإلهية تنتقم لي من هذه العصابة. كانوا يتدخلون بكل كبيرة وصغيرة في حياة تمرد. أصبحت أختها مثل الضرة. لها وظيفة واحدة.. الشماتة والتنكيل....

وحاولت أن أكون إنسانا. قلت لها: آسف. ولكن لن ألغي الرحلة.

لم ترد. صمتت قليلا. ثم سمعت صوت دقات ساعة من الطرف الآخر. ولم أعرف لماذا لا ترن عندي. دائما بيننا فرق. فجوة. فراغ.

ثم قالت كأنها تؤنبني: كما تشاء. سافر بالقطار إذا. وأنا سأؤجل الرحلة....

***

في وقت متأخر من الليل اتصلت مجددا. كنت في المطبخ أصارع جرة الغاز لأغلي فنجان قهوة.

ألقيت المفتاح الإنكليزي على الطاولة. ونفخت في الموبايل بغضب: نعم؟.

قالت بصوت بطيء: اسمع. واضبط أعصابك.

- ماذا لديك. هل ستملين علي أوامر جديدة...

سكتت. ثم سمعتها تقول وهي تنشج: لا فائدة ترجى منك. لا فائدة.

وأنهت المكالمة.

وقفت قليلا حتى هبت نسمة خانقة من النافذة. كان الهواء ثقيلا على النفس. يسقط على الرئتين كأنه حجرة.

قلت بسري: اللعنة. هذه العائلة نحس.

رمشت بعيني، ثم تابعت العمل مع الجرة. وطرقات الحديد على الحديد تتردد أصداؤها في رأسي...

 

صالح الرزوق

2015

 

في نصوص اليوم