نصوص أدبية

رقـصـة الـديـكـة

الثقافة لتحضر حفل الرقص الذي تشارك فيه ابنتها وتؤدي رقصـــــــة " القدس" رفقة الفريق . شاشات التلفزة لم تتوان عن عرض صور أطفال الحجارة: حشود الأطفال الراكضين هنا وهناك وأعوان الشرطة الذين يلاحقونهم بهراواتهم، تلك الصور عكرت رغبتها في مواصلة السير ...

 

الهراوات لم تكف عن ردع هيجان الصبية وهم يتقيؤون حقد الصهاينة، وينادون بحرية الأوطان وكرامتها ... أشجار كنعان تقاوم زحف العدو وأطفال الحجارة ككهنة المعابد يصلون من أجل يسوع ... الخدوش البادية على أيديهم وأرجلهم، الجروح النازفة دما لم تلههم عن الركض ... كابوس الجنود الاسرائليين جعلها تخمن بأنهم لن ينجحوا في وصم نجمة داوود على الغضب . المنازل التي هدت فوق رؤوس أصحابها لم تكن سوى قبور داخل وطنهم .

 

وهي تسير وسط المدينة تلفظ بقايا الكابوس، تتقيأ في أحد أركانها وتتمنى أن تجد إجابة عن أسئلة طالما راودتها واستكانت في مقالاتها ... ما كانت صورة "محمد الدرة " ترسخ في البال لو لو تكن رامزة لكتابة القسوة على الجسد الغض ... الشبكات التلفزية لم تجنح في إبراز الصورة لولا قسوة الحقيقة ...

 

تصادفها الوجوه كالحة، العيون ذابلة كأنها جربت الأرق طويلا، الأجساد الهزيلة الخالية من أي معنى، الخطوات المتقاطعة تقاطع الأنهج تركض بدون مبرر ...

 

تتساءل عن الجدوى من تجويع الشعب الفلسطيني وقطع الماء والكهرباء: أمن أجل قضاء أيام الصوم وتهيئتهم لتلقي الطقس الجسدي ... شارون وأتباعه هل استمدوا خططهم من المجتمعات البدائية ؟ ...

 

دخلت دار الثقافة عبرت الممر المؤدي إلى قاعة العرض التي تغط في الظلام . أصوات الحضور تكتم صرخات الوجوم ... المقدمة الموسيقية لأغنية "القدس" عمقت حالة البحث عن المجهول ... الأولاد يجلسون القرفصاء: أياديهم على وجوههم، كأنهم يبحثون عن منفذ للحيرة ... البنات اللواتي يرفلن في أثواب فضفاضة يسرن في كل الفراغات، رؤوسهن منكسة كأنهن يبحثن عن قطرة ضياء ...

 

المقدمة الموسقية الطويلة ساهمت في رفع رؤوس الحاضرين متطلعين إلى الحركات التي سيصدرها هؤلاء الصبية ... وراء الراقصين انتصبت شاشة كبيرة تعكس بقايا الأجساد المتعفنة الملقاة في الشوارع  ... الكلاب تولي وجهتها عنها وتمضي بعيدا . الجثث المرمية داخل المباني، الأجساد التي بترت أعضائها، دفق من الشبيبة بأعين مغمضة وأياد مقيدة يسيرون نحو مراكز التعذيب ... تلك المرأة تجلس على ركام منزلها المهدم ... دموع الشيوخ والأمهات والأطفال غطت الشاشة ... شهيق الحضور تهدج آهاتهم، مناديلهم المبللة بالدموع لم تزد المشهد إلا تحولا ! ما كان لأحد منهم أن يتقبل ما يرى ببرود !

 

المعذبون يتقدمون، أيادي الراقصين ترفع إلى الأعلى، اليد اليمنى تعلى كعمود شامخ، تلاحقها اليد اليسرى، ينفرج العمودان، يتحولان إلى حركة دائرية تنكس إثرها الرؤوس إيذانا بالصلاة القدسية ... تتقدم الخطوات إلى الأمام ... تفرست في السقف باحثة عن وجه الله ... أي ثمن دفعه المتواطئون، أما هذه الأجساد الغضة فهي تصلي نكاية في جحيم الإنسان وجحود نعمته .. يسطع الجانب الأيمن من الجسد غضبا فيعلو تصفيق الجمهور، تتبدد الدموع، تنفرج أسارير الوجوه وينبسط عليها معنى التحدي ...

 

تغفو قليلا ... ما كان المشهد يخلو من روعة لولا صعود أحد الشبان على الركح ليشرم أذن ابنتها وهو ينتزع قرطها ويفر من الباب الخلفي ... صرخت صرخة مدوية هزت أركان القاعة، أصابتها بالجزع الشديد، ركضت نحوها مسرعة، تشبثت بها، لكن بعض الرجال خلعوا جسد ابنتها من يديها وحملوها إلى المستشفى ... لم تستطع اللحاق بها حين هم أحدهم بسد الطريق أمامها، ولم يسمح لها بالعبور وأغلق الباب الخلفي بإحكام في وجه الجميع .

 

إبنتها الوحيدة لم تسلم من التعنيف، لا شك أن أذنها المشرومة ستترك آثارا كالوشم . أي عبث جعل ذلك الشاب يتجه نحو إبنتها دون سواها، وأي قدر حول أذن إبنتها المشرومة إلى لوحة " فان غوغ"، أهي الصدفة أم التحام الذاكرة القاسية بالحاضر ؟ ... بعض الصبية الراقصين أفادوا الحضور بأن الشاب مجرد عاشق أبت الفتاة الانصياع إلى رغباته .

 

تحولت إغفاءتها إلى إغماءة فارتخت على الكرسي، صوت ابنتها يصرخ خارج المبنى والباب أغلق بإحكام في وجه الجميع . تدافع البعض للخروج من الباب الخلفي، دفعت من اعترضها باحثة عن مكان الصوت لتلمح إبنتها تتقدم صف المتظاهرين، تمسك بيدها قطعة من الزجاج وتتوعد من يقترب منها بتجريح جسدها ... الدم يسيل من أذنها، ينساب على ثوبها ويلطخه .

 

راودها الشك بأنها لا تحمل من إبنتها إلا الصورة، فكيف تتحول ملامحها الهادئة إلى عضلات مشدودة، وكيف تستحيل حركات جسدها اللينة إلى ركل على الأرض، وكيف ترفع يدها مهددة بالنزيف ؟، حاول أصدقائها ايقاف تشنجها دون أن ينجحوا في تهدئتها ...

 

 الجزار الذي كسر الصبية واجهة محله أضحى بدوره يقطع اللحم ويرميه إلى القطط المتنمرة ... والعيون الجائعة لم تعد قادرة على فك طلاسم المشهد ... زحفت على الأرض فخدشت ركبتها ببعض الشظايا البلورية والخشبية المتناثرة . أمسكت إبنتها من الخلف لتردع تصرفها . حسبتها عدوا يريد التربص بها فألقت عليها قطعة الزجاج، انبطحت على الأرض فأصابت تلك القطعة إحدى القطط التي كانت تأكل اللحم بطريقة خلفت حقد الأشخاص ... القطة الجريحة تنقض عليها وتغرس مخالبها في رجلها فصرخت، فتحت عينيها لتفاجأ أنها كانت تحت تأثير الكوابيس المتلاحقة وأن اللوحة الراقصة تعج بالتعبيرات : تتقاطع الأيادي على الصدر، ترفع، تتشابك .

 

ركزت نظرها نحو إبنتها التي كانت ترقص في ظل عالم علوي وهي تدفع إحساسها نحو حركاتها المتناسقة . تتشكل الدائرة إذ يمسك أفراد المجموعة أيادي بعضهم، يتغير اتجاه الدائرة في المنحنيين . ثم تنكس الرؤوس ويخيم الصمت .

 

لم تستطع التركيز على رقصة إبنتها منفردة فكل حركة تؤدي إلى أخرى مجاورة . ترفع الأيادي الواثقة صراخا وعنادا ونصرا : " بأيدينا للقدس سلام وسنهزم وجه القوة " .. وحين انتهت الرقصة وعلا صوت التصفيق عادت إبنتها إلى الأرض . لمحتها تبحث عنها بنظرتها المتفحصة، وما إن تبينتها حتى حيتها ثم قدمت تحية الختام رفقة الفريق .

 

نظرت إلى الساعة وأشارت إلى إبنتها من بعيد لكي تغير ملابسها على عجل لتنصرفا، فلم تعد تشاهد داخل القاعة المعتمة سوى تراقص بعض الأشباح التي فتكت بعقلها وعكست لها كابوس الأذن المشرومة . مسكت يد إبنتها وضغطت على أصابعها كي تنجح في دفعها نحو الخارج بأسرع ما يكون . ذهلت إبنتها إزاء تصرفها غير العادي، فقد تعودت أمها على البقاء قليلا في قاعة العرض وتدوين ما يصلح لكتابة مقال تغطي به النشاط الثقافي . تساءلت في حيرة :

ـ " ألم يعجبك العرض ؟ "، ردت بتشنج :" فلنذهب " .

ـ لكني كتبت قصيدة حول" فلسطين" لأقرأها ضمن القراءات الشعرية .

 

هزت رأسها بلا مبالاة ووجهت نظرها نحو المباني القديمة المتآكلة ذات اللون الشاحب.

ما كانت تشكل لها تصاميما أخاذة لولا هندستها وحيطانها العالية التي تخفي الغرف . حركت هذه البناءات كل رغبة في غلق منزلها عن كل الأشياء الحميمبة وإخفاء إبنتها القريبة منها في مأمن عن الأعين ... هذه الديار أغمضت كل العيون التي ترقب أسرارها.

 

لم تنتبه لإبنتها وهي تنفلت منها وتركض في اتجاه دار الثقافة لتقرأ قصيدتها. فقد كانت تبحث عن وطن لـ" فلسطين" داخل الكلمات .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1268 السبت 26/12/2009)

 

 

في نصوص اليوم