نصوص أدبية

الصرصار

saleh alrazukإلى روح الروائي المرحوم

هاني الراهب*

 


 

دخلت سميرة إلى غرفة الجلوس وصاحت: لدينا صرصار آخر يا أستاذ..

كنت مشغولا بتثبيت رف جديد في المكتبة. فالكتب تتراكم على الطاولة. وأصبحت الحاجة ملحة لتوفير مكان لها.

قلت وأنا أتابع العمل: بسيطة. غدا أشتري بف باف..

ولم تكن بحاجة لأكثر من هذا لتقول بقرف: وهل يجب أن أعيش مع صرصار حتى الغد؟.

كانت المطرقة بيدي. وتمنيت أن أستدير وأضربها بها فوق رأسها. هكذا نختصر مشكلة سميرة. إنها من شهور تخترع المشاكل. كانت في بعض الأوقات تمتحن قدرتي على التحمل.

لم يعد لدى هذه المرأة حساسية. ولا سيما بعد أن علمت أنها لا تنجب.

في البداية انطوت على نفسها، ثم بدأت باختراع المشاكل. نسمة الهواء عندها مثل عاصفة. لو أصابها زكام تقول هذا طاعون. تبالغ بكل شيء. وأصبحت سياستها الإفراط والتهويل.

الناس تبحث عن نقطة النور، وهي تطارد الوهم. حياتنا تحولت إلى وهم فقط.

نفختُ نفسا حارا وأردفت: أمهليني لحظة.

ردت وهي تستعد كالعادة لتهويل المسألة: يا رجل. الناس تضرب الصواريخ وأنت تفكر بالبف باف، هل هذه التفاهات حل برأيك؟..

وفهمت أن النقاش سيطول، فألقيت المطرقة على الأرض، وجلست على أقرب كرسي. وركزت نظراتي بوجهها.

كانت تلبس بلوزتها البيضاء والتنورة البنية، وتحلي أذنيها بقرط أصفر من المعدن، لكن هيئتها تدل على نفاد الصبر.

فعلا هذه المخلوقات المنفرة والبغيضة تختفي وتعود للظهور. حتى أن المدخنة كانت في الفصل الماضي ملجأ لبومة. نعم وجدنا فيها عش بومة. لا أعلم ماذا أصابنا.

كان هذا البيت خميلة وارفة الظل، ويحدوه أمل بالمستقبل. ولكن يبدو أن العقم بدل كل الحسابات.

سألتها: وماذا أفعل؟ هل أشتكي على صرصار للشرطة أم للمخابرات؟.

أجابت بسخط: يا لك من عاجز. لا تعرف غير السخرية.

- ما رأيك لو ننفخ على هذه الخرابة حتى تتحول إلى قصر؟..

- عبث لن تتغير. أختي وزوجها وصلا المريخ وأنت كل يوم تنزل درجة...

غمرتني الكآبة فورا. لم أكن ارتاح لذكر أختها، وهذه وجهها أزرق. وخسيسة. لا يروق لي زوجها. لا يمكن مقارنة إنسان عصامي مثلي بشخص بهلوان. فاسد الضمير مثله.

استفاد من أوضاع الحرب وجنى الملايين.

ولم أتمالك نفسي. وقلت لها بصوت يلعلع كالرصاص:

زوج أختك حرامي يا مدام. لا ذمة ولا ضمير. نحن لسنا مثله..

فحدجتني بنظرة ملؤها الحقد. ثم استدارت وضربت الباب وراءها من غير كلمة.

***

في الواقع لقد فسد يومي. لم يعد لي مزاج لاستكمال ما شرعت به.

تركت المطرقة على الأرض، ولم أغادر الكرسي. وغرقت بالتفكير..

كنا نسكن في الجميلية. حارة اليهود سابقا. للمداخل أقواس نصر. الشوارع مبلطة. والسلالم عريضة ومشرقة بسبب وجود المناور. عند كل منعطف في السلالم منور تنسكب منه إضاءة طبيعية. وفي الليل يتسلل ضوء القمر ويتحول الصعود إلى البيت لنزهة شاعرية.

كل ما في الأمر أن طبيعة الناس تدهورت.

ومع هذا التدهور زحفت النفايات في أرجاء الحارة. وجاءت في أعقابها هذه المخلوقات.

معها حق نحن بحاجة لحل سحري. لكن ليس على طريقة زوج أختها. ذلك المسخ المقزز.

إنه حشرة ضخمة فقط. صرصار بشري لا أكثر ولا أقل.. وكان له عيب خلقي. ساق أقصر من ساق. وللتمويه على هذا العجز يرتدي فردة حذاء بنعل من الفلين السميك مع فردة حذاء عادية.

***

بعد أن بردت أعصابي تحاملت على نفسي لتسوية الموضوع. كان لا بد من إيجاد خاتمة لهذا الفصل التافه والسخيف. للنزاعات الدموية حل، فما بالك بمشكلة منزلية.

وتحركت إلى غرفة النوم لترطيب خاطرها. بكلمة منمقة. بوعد. ولو أنه كاذب لكنه يساعد على الشفاء من نوبات اليأس.

كان دأبها بعد كل معركة أن تكسر أي شيء بمتناول اليد. ثم تهرب إلى سريرها وتدفن نفسها فيه.

اليوم لم تستجب لهذه النزوة. لكن المشكلة أنها أوشكت أن تكسر قلبي. وهذا العطب لا دواء له.

كانت غرفة النوم تسبح في إضاءة منتصف النهار. ورأيتها أمام خزانة الثياب تحمل البلوزات والتنورات وترتبها في حقيبة.

عما قليل ستكون هذه الخزانة خاوية. ستصبح مثل عيب امرأة نهبا للأنظار. وستتدلى التعليقات من عمود البرونز الأصفر البارد بلا حيلة مثل أغصان من شجرة تحتضر وتموت.

ماذا تفعل هذه المجنونة؟..

صعد السؤال إلى دماغي وأنا أعصره لأجد تفسيرا.

لم يخطر ببالي أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة.

معقولة؟.

هل هذا كله من أجل صرصار؟.

 

صالح الرزوق

.......................

(نشر هاني الراهب قصته "الصرصار" في مجلة (أوراق) التي تصدر في لندن عن شركة شل عام ١٩٨٢).

 

 

في نصوص اليوم