نصوص أدبية

الثقب

saleh alrazukاحتفلت زوجتي بعيد ميلاد أختها.

واشترت لها بعض الإكسسوارات وحلقا من الذهب.

أخذت نظرة من هذه الهدايا التي كلفتها ثروة. وشعرت بغصة.

نحن حتى الآن بلا ولد. ولا نحتفل بالمناسبات. لا عيد زواج. ولا ذكرى ميلاد.

كانت تسليتي الوحيدة المقاهي. إما أجلس لأصغي لأصوات ضرب أحجار النرد. دون أن ألعب. أو أرى. لأنني أكون مشغولا بجريدة. أو بالنظر إلى المشاهد السخية التي تراها من النوافذ.

لمقاهينا نوافذ واسعة. بحجم شاشات السينما.

وغالبا أختار ندوة على الرصيف لو أنه صيف. وهي أمام القلعة. حيث تكون القنوات الرومانية وسوق الصيف وأبراج الحراسة أمامي.

أو استراحة موديرن لو أنه شتاء. وهي خلف سابقتها. دافئة. وتخيم عليها نباتات زينة تخفف من وحشة وجفاف الجو.

وفي الحالتين نادرا ما لا أشعر بالأسف.

وأفكر بسري: أين نحن من سيف الدولة والمتنبي.

لقد وصلنا إلى عصر الانحطاط الجديد.

كنا نتكلم عن كلاسيكية جديدة واليوم كل شيء يدل على تراجع وانحدار.

فنحن نغرق بالفساد وعما قريب سنغرق في بحور من الدم.

دورة العنف لها علامات. وأولها أن لا تحترم نفسك.

وماذا يعني العنف أصلا.

أليس هو الاعتداء على الذات؟..

***

وحين تهيأت للخروج. كنت أفكر على نفس المنوال: ريثما تنتهي الحفلة سأخلد بنفسي إلى الاستراحة. و سأنعم بقليل من العزلة. الانفراد بالنفس يساعد على التطهير من رواسب الحياة. ولو شعرت بالضجر يمكن التقليب في صفحات جريدة.  

الأخبار الآن تحمل لنا الأحداث الساخنة. فأحداث مصر اندلعت. وسبقتها تونس. والعيون مصوبة على الخليج . وفي ذلك الوقت لم يتنبأ أحد أن الانتشار سيكون بنفس الاتجاه.

يعني لا يوجد ردة فعل. ولكن توسيع للدائرة.

والذي بدأ في تونس سوف ينتقل مثل الشرارة في الهشيم حتى يصل إلينا ونلتهب.

وبدأت ابحث عن القميص ولكن لم أجده.

وقفت عند باب الغرفة و صحت نحو المطبخ: أين القميص يا فتحية؟..

لم تسمع. ربما لأنها تحرك الحليب. كانت رائحة الرز بالحليب تغمر البيت كله.

قالت: ماذا؟..

- أين القميص؟..

- في الغسالة.

وذهبت لأنتشله من براثنها الموجوعة. فهي بنغوان من طراز قديم. وحين تدور أثناء التنشيف تسمع صوتها يئن وينحدر من علبة الفلتر نقاط سائلة. تشبه الدموع. كانت غسالتنا تبكي.

مثل كل شيء آخر في هذا العمر. أوراق الأشجار التي على الأرصفة تبكي. السقف يدمع. النجوم التي في السماء تلفظ روحها وتموت.

تكاد تهوي على الأرض وتمرغ روحها المضيئة بالوحل.

وبحثت في الحوض المعدني ورأيت أن القميص لا ينفع. لقد اختلط مع الملابس الأخرى وأصبحت له رائحة.

لا يليق بإنسان مثلي أن تكون له هذه الرائحة.

كأنني كنت على سفح جبل وأعمل في تكسير الصخور.

حتى المحكوم بالأعمال الشاقة يستحم وينظف نفسه بعد جولات العذاب.

لذلك تركته وعدت أدراجي لأرتدي البنطال.

لكن كان في مكانه ثياب نسائية فقط. وبلوزة صوف من الموسم الماضي.

يا الله.

ما هذا الإهمال.

يحق لهذه البلوزة أن تذهب إلى الخزانة وتنال حصتها من كرات النفتالين. لتقاوم داء الفراشات المفترسة. لا يخلو بيت من هذه الحشرات بسبب التأخير في تنظيف النفايات.

في كل شارع تشاهد سحابة من الحشرات. أصبحت هذه السحابة ماركة مسجلة.

ومهما اشتكيت لا تلقى أذنا صاغية.

وقت البلدية مشغول بالترخيص. وزيادة مصادر الفوضى.

أكشاك على الأرصفة.

زحف للبضائع المستوردة واغتيال للمعامل. اندحرت قوافل الطبقة العاملة. وأصبح كل عامل بسيط رأسماليا على طريقته. يفضل أن يكون بائعا متجولا على أن ينضم لسلك الوظائف.

ولم يعد لنا مكان في ديارنا.

أصبحنا نعمل لنرضي غيرنا.

وإن كنت لا ترى ذلك بالعين المجردة يمكن أن تشعر به.

وبيوتنا، الخميلة التي نستريح فيها كلها صناعة أجانب.

وقفت عند الباب. وسمعت صوت الخلاطة. مستوردة من كوريا وليس الصين.لا بد أنها تمزج طحين الفرخة مع البيض. وتستعد لتحضير الحلويات.

وغالبا أنتظر دوري بعد نهاية الحفلة من أجل حصة.

فتافيت.

بقايا.

وشعرت بغصة أخرى.

حياتي مع هذه المرأة خسارة. لا أشعر معها بشخصيتي.

وفي معظم الحالات أحترق بالندم.

لماذا أنا لست سيد نفسي.

وعبارة عن كرسي فقط في هذا البيت. ظل لجدار تختبئ وراءه. دون أن أنعم أنا به.

ولتسمع رفعت رنة الصوت.

وسألتها: وأين البنطال يا فتحية. هو ليس في مكانه؟..

أغلقت الخلاطة.

وساد السكون.

ثم قالت:غسلته وكويته. تجده في الخزانة..

أومأت برأسي. بلا صوت. كأنها تراني.

كانت الساعة حوالي العاشرة.

اليوم مشمس مع أننا في الشتاء. في هذا الموسم تأخرت الأمطار. ربما تغير الطقس من تأثير الأحداث. كانت الحروب تدور في لبنان. والمشاكل لا توفر جنوب تركيا. وفلسطين تشتعل كل لحظة.

لا يمر يوم بلا تفجير. حتى أن اللجنة علقت المفارضات. من سيتحاور مع من في جو مشحون يغلفه غبار الرصاص.

لا تسمع من شهور غير الأغاني الحماسية.

شعب عربي.

مثل الطبل لا يكف عن الولاويل و كيل اللوم والهجاء.

وماذا تتوقع.

أن يتركنا الأجانب حتى ننتعش ونفكر بالهجوم والتوسع.

فتحت النافذة.

لتغيير الهواء. وألقيت نظرة منها على الحارة.

كانت الأشجار جامدة. وهذه صفة يشترك بها الصيف مع الشتاء. في الحر تنضج الأشجار تحت الشمس وتجف ببطء حتى تموت. وفي البرد تجمد أوراقها على الأغصان. وتأوي إليها العصافير التي تفتك بالبراعم.

لا حياة لمن تنادي.

مهما طلبنا المنشطات نحصل على نفس الجواب: لا يوجد اعتماد.

ثم فتحت الخزانة ورأيت البنطال يتدلى من حامل البلاستيك. سحبته بهدوء. و بدأت أفك أزاراه حين انتبهت للمشكلة.

هذه هي فتحية.

إنها خطأ أعاني منه في حياتي.

يبدو أنها ضغطت بالمكواة.

وأين..

فوق مكان العيب.

تماما عند السرج.

وصنعت ثقبا صغيرا. كأنه بفعل سيجارة. كان واضحا ولو ارتديته سيظهر لون الكيلوت الأبيض من تحته.

جدفت بصوت منخفض.

وحتى لو شتمتها بملء صوتي لن تسمع لا هي ولا ملائكتها. فقد كانت تواصل معزوفتها بالخلاط.

صوت يصم الآذان...

 

صالح الرزوق

تشرين الأول ٢٠١٥

 

في نصوص اليوم