نصوص أدبية

الخنفساء الهرمة

heyam fershish لم يفهم بعد سبب حركة أصابع والدته المتشنجة وهي تمزق دفتر أشعاره. لم يفهم سبب إخفائها لمقالاتها الثقافية عنه. لم يفهم لماذا تسيج والدته حديقة الشعر بالأسلاك وتمنعه من دخولها. لم يفهم هذا الحنق الذي يبدو في مرايا عينيها كمخالب قطة متوحشة. ولكنه باغت والدته من حيث لا تدري، وامتدت يده إلى ذلك الرف الذي تخفي فيه قصاصات مقالاتها في الجريدة.

 

تتحدث والدته في مقالاتها عن جثث متفسخة ملقاة على ورقة شاعرة هرمة، تحيك معركة ساذجة تحركها عناكب العدو.. تتحدث عن صحفي يلتقط الخبر ويضل عن الحقيقة، وعن أقلام ادعت في الخيانة حرية، عن خيوط ومؤامرات تحوم حول بيوت الثقافة، ودراهم تدفع لكل شحاذ يتسول فسخ الذاكرة.

 

تشعر والدته بمرارة حارقة في الحلق، وتتساءل في حيرة: كيف يعلقون رؤوسهم في حبال العدو، وكيف يحرفون الحروف ويسكبون أحقادهم على المعنى؟

 

يشرعون للعنف أبوابا، ويتذرعون للريح لتبعثر الروح..

 

كم سلبوا معاني العفة وعفنوا المرحلة..

 

خنافس تترك غبارها على وجوهها..ولا شيء يطهر اللحظة من عبثها عدا النظر إلى الغد من لوحة البارتية تحل المعنى، وتمتص الألوان الحادة كما البحر والسماء..

 

يزرعون الكبريت في شفا حفرهم، والشمس ترقب ما وراء الستار..

 

يزرعون الفتنة في ليل متكئ على قناديل الضوء..

 

نراهم من حيث ترى الروح ما لا يرى..

 

خنافس تسير نحو مواكب جنازتها..

 

حين تدق نواقيس نهاياتهم تشرئب أعناقهم في الفضاء يضيق من حولهم..يركضون في كل الاتجاهات..يتفوهون بما اختزنوه من حماقات..هؤلاء من قدموا من فوهة برميل بترول..

 

حين سار إلى البحر تلاشت كلمات والدته عن جحافل الخنافس التي تسير في موكب جنائزي..

 

كان يريد أن يتطهر من وحل يتمرغ فيه الشعراء والكتاب المأجورون...وأن يبحث عن قصيدة مائية تغسل كل هذا السخام عن وجه الثقافة، وأبوابها المشرعة للفراغ.

 

عينان تتفرسان في البحر..

 

لا خنافس تلتهم المعنى..لا خنافس تقضم أثاث بيوت الثقافة..لا خنافس تأتي على النباتات والأشجار التي امتدت عروقها في الروح..

 

لا خنافس تمتد في جبال وغابات وصحاري الوطن..

 

لا خنافس تلتهم ما يقذف لها لتتكاثر..

 

لا خنافس تحاكي لون الغراب، ولا خنافس تطل من وجه يحجبه النقاب..

 

لا خنافس تتلصص على المعنى من وراء الجدار...البحر مبيد للخنافس..

 

وخمن أن ماء البحر سيطهر اللحظة من بقاياها الآسنة، وأن ماء البحر سيستحيل الى حبر يسكب في تلك النتوءات التي تعشش فيها الخنافس، تاركة آثارها وبقعها السوداء..في كتابات الشاعرة الهرمة التي عافها المعنى فراحت تقضم أصابعها المدببة وتركض بهستيريا في زاوية خانقة بعدما انطبق عليها الفخ..

 

من قال إن الخنافس قادرة على الانتشار والامتداد..من قال إنها لا تغادر الفضاء الضيق، وإنها سجينة كوابيسها؟

 

كان قد قرأ بين أوراق والدته عن الخنفساء الهرمة التي قذفت رذاذها الكميائي حين انطلق صوت المعنى يعانق الشمس الدافئة، وأن صوت الموج يوتر نبضات بطنها المكورة المترهلة.. رصدها وهي تطلق قرقعتها الفجة بين ثنايا شعورها الفج، شاهدها وهي تتشنج كلما همس الموج بكلماته الساخرة.. فتطلق بقايا الخلايا الميتة تستحيل الى سوائل ضارة. تقذفها ما بين ساقيها المدببتين وتحرك ذيلها بشكل دائري.

 

قبل قراءة ما حبرت والدته لم يكن يدرك أن الخنفساء إن حطت في مطبخ الساسة تعفن الطبخة وتفسد الشهية. وأنها تسير في مواكب الخنافس وتحوم حول مطابخ الساسة، كاشفة عن فتحات بطنها المترهل لقذف بقاياها على ما تبقى من لوحة الوطن... لا يدرك أن الخنافس تعودت على العيش في المطابخ، تتكور كعلب السموم، بين أسطر صحفي يصطاد الخنافس العفنة ويلقي بها بين أروقة الإعلام المأجور بالدراهم والدولارات وكل يد سفلى تستجدي قوت أطفالها من المال الفاسد.

 

 كانت تخفي عليه كتاباتها لكي تتركه يسبح في مياه المعنى، ويصرف اهتمامه عن الخنفساء الهرمة التي صارت تحوم حول بيت الشعر والثقافة وتضع بيضها على قشور اللغة، وفي بيوت المواخير القديمة، لتقتات من جثث الحشرات الميتة، فقد تعودت أن تؤمن طعام أبنائها من الجثث المدفونة في القبور..

 

 الخنفساء الهرمة تجهرها أشعة الشمس الحارقة المنعكسة على سطح الموج الشفاف فتطرف عينيها المنطفئتين، تغادر مخبأها ليلا متذرعة إلى مصابيح السماء، تصاحب طيور الظلام الى أوكارها وكرا وكرا، سائرة في الطريق المحدد لها لتلقي ببقاياها الملوثة على الفضاءات الناصعة..و تدنس ما بقي من عذرية في جسد حالم بالمعنى..

 

يراها كزبد البحر، كرغوة مساحيق التنظيف في ماء الغسيل، تطلق فقاعات هشة سرعان ما تتبدد.. زبد الشعر المتعفن..زبد ما ترسب في اللغة من أجسام ميتة متفسخة..

كيف انبرت خنفساء الزبد فجأة؟

 

هل ثمة يد آثمة دفعتها بما أوتيت من قوة لتهاجم المعنى بكلمات مزبدة تتبخر كما الغازات الخانقة تذهب جفاء؟

 

لا جدوى من كلمات ككتلة متآكلة متخندقة..

 

طفق يتأمل جسمها المجعد، المحفور بالأخاديد..جسمها الذي يطفو على الزبد ليتلاشى..

 

عندها تراءى له حلم يخترق سحابة عابرة، أقوى من جناحي طير، يخفق تراتيل إلاهية في وطن يحتضن حقيقة الكون.

 

على اليسار أطفال يعبثون بالحروف الملغمة..شظايا لعب قديمة أهداها لهم صناع الموت..على اليمين عناكب تنسج أوهاما عابرة... في زوايا الليل زبانية الملهى السياسي يمينا ويسارا يصفقون لمومس الإرهاب وقد علقت أرجلهم بوحل الشياطين..

 

يستقيظ الحنين الى المعنى ..قطة تتثاءب يتفتح بين أهدابها شعرمزعوم..كلمات قدت من صخب العدم كسحب تتفرق وتتباعد..

 

واصل سيره إلى شاطئ البحر، وقد تفتح الشعر لؤلؤة في صدفة ملقاة على الشاطئ، روح تشق الصخر، تنام بين مرايا الموج وتنهض على حلم قديم.

 

جال بين الحروف يقرأ صوره في خربشات على الجدار،على قصور الرمل يغريها الموج. سماء تسبح في الماء الصاخب وترسم ألواحه تراقص اللون..طفل يعبر على زوارق الذكرى يرى ما خبأه الموج، زهرة اللوتس تحاكي نجمة بعيدة، نفيس الحرف في قصائد مائية، بجعات حالمة، نوارس تلامس المعنى، شعر خفق في جناحي الطير..

 

غرد أنشودته السرمدية، وغفا بين التلة، يستنهض الشعرفي ملكوت الصمت..

 

كان يود أن تستشعر والدته إحساسه في شعر يمحو ما كتب على شاشات البترول من آيات الدم المسفوك، من جثث مقطعة ورقاب تذبح كالخرفان، وينزع عن جنود الشيطان ما لبسوه من أقنعة تواري سوءة السجود لكائن من تراب. فقد سئم كل المشاهد الحادة. و يريد أن يقرأ ما تخطه عن ساحة الشعروالتجلي ليجد البوصلة التي تضيء له خطوات أقدامه نحو حقيقة الروح..

 

لقد بدت أمه غير مبالية بما يكتب، تتوجس خيفة من قطاع الطرق الذين طالما حولوا وجهة الشعراء الى دهاليز السياسة..

لا كتب عجاف تروي عطشها للمعنى ..لا أقفال تحل أبواب الغيب في لغة لا ترى..

 

نوار وأعشاب عطرة تظلل مقبرة الذكريات..وجدران تضيق على صمت الموتى..غيبوبة في أذهان تنام على عتبات السلطان..أذهان تلتقط اللغة سرابا في أروقة الذات المخادعة..

 

وطن رسمه مبدعوه مقبرة، ينامون بين قبورها ويقتاتون من أعشابها. يتسولون ماجاد به زوار الموتى..

 

وطن ضاق بهم..فضاء ينحصر على التلال..

 

يتوارون في كهوف الزواحف، يبثون سمومهم في الأرض..وطن لا فرق فيه بين مبدع وبين ارهابي..كلاهما صناع موت..كلاهما تعلم أن يصب البنزين على المعنى..أن يلعن حقيقة الوطن وأن يتقن لغة الشحاذين..

 

 وجه نظره الى حيث يلتقي البحر بالسماء. أنامل الشمس تداعب سطح الموج لتخفف عنه صخبه فيختزن دفئها..ولكنه يأبى الذوبان..وأيادي الشمس تحمله الى رحلة صمت يمجها العمق المنطوي في كمونه وحيواته..فيتبخر ما علق على السطح باحثا عن غيوم رمادية توقظ صخبه الهادر كلما حن الى أصوات العواصف.

 

ينصت إلى موسيقى الكون وأصداء الأشياء..يلتقط صورا، أصواتا .. باحثا عن عقد النجوم الذي تهديه السماء للبحر مع كل التماعة ضوء..

 

 عندها رأى والدته تلتحق به الى الشاطئ، تلاحق نظرة طفلها الباحث عن كون في تجليات الحركة تقض مضجع اسئلتها الطفولية.. عن روح ملونة كنباتات الضيعة الجبلية تترك حبرها على أناملها كحناء تلون المعنى على ورقتها

كانت تريد أن تكتب عن رؤى الشعر، أن تشد على يديه ليتعلم كيف يبيد الخنفساء الهرمة، قبل أن تزحف على أوراقه وتبيض على قشور اللغة..

 

قال لأمه إنه يكره الحشرات بما فيها الخنافس ويحب الفراشات، تغويه ألوانها، تحلق بأحلام طفولته الى نواميس الضياء..يكره الحشرات ويتأنق في الأعياد كما الفراشات، يكتسي بألوانها البيضاء والأرجوانية، والبرتقالية والحمراء والزرقاء.. يراها في المرايا كقوس قزح.. و يلاحق روح الشعر كما تلاحق الفراشات الشذى بين الزهور، ليدرك معنى ظل هائم بين الحدائق والضيعة الجبلية..ينجذب الى نور الحقيقة، ويستقبله مع استقبال كل فراشة تدخل غرفته عبر النافذة منجذبة الى ضوء الفانوس الكهربائي، أو انعكاس الشمس على ألوانها الجذابة وأشكالها المهندسة بدقة.. ولكن أمه لا تراه يحلق بجناحي فراشة، بل مازال يلتهم أوراق الشعراء الذين سبقوه، وما عليه إلا ان يكف عن إطعام نفسه بهذه الدواوين وينزوي قليلا ليتشرنق حول نفسه..فلا يمكن لشاعرإلا أن ينهمرفي العمق، ليأخذ الشعر شكل الفراشة في انتظار انتفاخ الشرنقة لينبثق الشعر خالصا..

 

شفافة ناعمة أمه، ولكن حين تنفض جناحيها، تربك الحركة في المنزل، فيضطر والده للمغادرة أياما، ليعود كشيء من أشياء المنزل، في حالة صمت. يشاهد التلفاز، ويقرأ كل الصحف إلا الصحيفة التي تكتب بها، فهي حريصة على عدم جلبها للمنزل، وكأنها تنسج من خلالها شرنقتها الخاصة بها. حين تنفض كلماتها كما تنفض سيجارتها، فهي إشارة لاقتراف حركة تبعثر السكينة. تميل إلى البساطة في لباسها وفي ترتيب المنزل بديكور مريح، إلا أنها قادرة على إحداث موجة احتجاجات، تسجل من خلالها أهدافا.

 

 يراها زوجها كائنا مدمرا، ويصعب أن تفصل بين رقته وحركته القوية المباغتة، ولكنه يبعثر ما يعيشه من جمود في عمل تحول فيه إلى آلة تنفذ الأوامر العليا. وتعود أن لا يبدي تعليقا على ما ينفذ. هو إطار في عمله بل إطار تطل منه رؤوس القيادات العليا. لم يعش والده طفولة سعيدة كما يبدو، فالحركة محسوبة من خلال أوامر والده. اختار أن لا يخرج عن هذا الإطار الذي تطل منه زوجته هذه المرة. تدهشه قدرة والده على الحلم، وعلى ترك الفراشة الناعمة تحط على كل مكان في المنزل كما تشاء ودون أن يقوي على الإمساك بها..

 

والده الذي تعود أن يعود صامتا الى المنزل..كان يعاني من كوابيس تقض مضجعه، تنهال عليه سياط والده في الضيعة الجبلية كلما اشتكى جار أو قريب من لعبه الفج، تنهال السياط على المخربين والمعتدين والخونة الذين يفخخون تراب الوطن، ويخفون الحقائق، هل آن للسوط أن يلجم انفعالات عابثة؟ وهل آن للفراشة ان تضمد اثار الوجع؟ وهل آن لشعره أن يرسم حقيقة غائبة؟

 

هذه المرة فوجئ بوجه والدته المتنمر وحركات أصابعها المتشنجة تعبث بكل ما يعترضها وتحاول سحقه بين أصابعها الهشة بما في ذلك دفاتر أشعاره. وتحاول سحب حركة لغته الهائمة التي تراود الورقة قبل النوم وأثناء الحلم وفي هواتف الفجر.

 

قالت له إنه مازال في سن الربيع، تغويه اللغة لامتصاص رحيقها، تنبعث منها أحاسيسه الطيبة، ولكنها تهيم به إلى السراب الخادع، وأن هناك خنفساء هرمة سوف تبيض على أوراقه وتعفنها، وما عليه إلا أن ينمي حركة جسده لتنطلق الروح قوية من مساماته كفراش الشعر ليحكم القبضة على الخنفساء الهرمة ويتعلم كيف يصرعها..

 

في كلمات ساخرة قالت إن نظراته الساهمة تجاه الموج، كشعر من غير حركة. كان عليه أن يتعلم سباحة الفراشة قبل أن يخط خيلاته تظلل المشهد بستائر داكنة. كان عليه أن يضرب الماء بكلتا ذراعيه لتنمو حركته نحو الأمام..الشعر قوة لا تنفصل عن الجسد وقصيدة الماء تتمرأى في ضرب ذراعيه على الموج.

 

أمه تتقن السباحة فوق الموج العالي دون أن تضربه بذراعيها، ولعله ينصاع لحركة جسدها اللينة..والدته التي لا تتقن الغوص وتحذق اعتلاء الموج، وهي تتموج فوقه لساعات طويلة..

 

 في النهاية أذعن لتوجيه والدته لصرف وقت فراغه في تعلم السباحة واعتلاء الماء..الشعر جسد اللغة يطفو على الماء..

 

في حصص السباحة بدأ يدرك أن الشعرجسد لا ينكمش أمام الخوف.. تعلم أن لا يحدق في وجه الخطر مرتجفا بل مغالبة خطر الموج العالي.. أن يتنفس بمفردات نقية.. أن لا يكتب عن ماء البحر بخيالات متعالية..

 

يبدو أنه قدم ليتعلم السباحة في سن متأخرة، فهو في سن الثامنة عشرة، لكن مدرب السباحة قلل من هذه الهواجس وقال إن التدرب متاح في كل وقت، و وقال إنه لن يتركه عرضة في مواجهة الماء، بل ربط خصره بحبل، وأدخل جسده في إطار بلاستيكي نفخ بالهواء ليشد المدرب الحبل..

 

وشعر أنه دخل الإطار الذي طالما أطلت منه صور قيادات والده في العمل وصورة أمه في المنزل..وكان عليه أن يكون داخل الإطار..

 

داخل الإطار تعلم أن يمد لسانه للخنفساء الهرمة، ويتوعدها بإبادتها..تعلم كيف يسبح الشعر في جسد يعرف كيف يوجه حركات الأطراف..تعلم أن يغطي عينيه بنظارات سباحة يرى من خلالها مرايا الماء وأن يسد أذنيه..تعود جسمه أن يمكث فوق الماء وتحته..تعلم كل تمارين تحريك الأطراف وحركة اندفاع الجسم وسرعته تعلم كيف ينزل للماء ويجلس فيه ويغوص فيه ويطفو.

 

 تعلم أن يسكب الماء على الخنافس يتلذذ بمشهد جهلها لفن السباحة، ولكنه تعلم أيضا أن يرى في ماء الموج بعض الزعانف والفطريات في أوراق الشعراء..

 

 لم تستأصل منه والدته روح الشعر بل علمته كيف يبيد الخنفساء الهرمة، وينظر إلى العالم في قصيدة مائية لا يكتبها بحروفه بل بحركات جسده المتوثبة لدوس الخنافس..

 

هيام الفرشيشي

 

في نصوص اليوم