نصوص أدبية

حكاية من خوالي الايام

moslim alsardah كنت طالبا في الصف السادس الابتدائي. وكان درسا العلوم والتربية الوطنية شاغرين، بدون معلم، حين دخل علينا مدير المدرسة. وبعد القيام والجلوس، اخبرنا ان مشكلة الشاغر قد حلت. وان معلما قد جاء نقلا من مدرسة اخرى، وسوف يباشر في المدرسة، ابتداء من الاسبوع القادم. الى هنا والحكاية طبيعية. ذلك ان مدير المدرسة اراد ان يبدد قلقنا، على اعتبار اننا في صف منته، وان الامتحان الوزاري يحتم ضرورة اكمال المناهج الدراسية، وان ابن مدير الناحية كان احد تلاميذ الصف.

الذي حدث ان دخل علينا الى الصف بعد ذلك رجل طويل جدا نحيف القوام، وكان يبدو انه سينكسر لطوله ونحافته. وابتدا شعره بالتساقط فبدا نصف اصلع. وكان ذا شاربين كثيفين يتدليان حتى يغطيان فمه وتتوغل نهايتهما فيه وتتبللان لعابا اثناء الكلام.اما عيناه فبدتا حمراوين عرفت فيما بعد انهما من فعل شرب الكحول الذي كان يتعاطاه اثناء الدوام وبعده. كان يحمل بيده عودة خيزران طويلة يزيد طولها على المتر. وراح يخطب فينا خطبة لست اتذكر من تفاصيلها سوى التهديد والوعيد بل والتجاوز بكلمات الشتيمة العامة غير المحددة وغير الموجهة لاحد محدد بل لكل من لايدرس ولايطيع الاوامر!!.

حين خروجنا من الصف بعد انتهاء الدرس اسر لي صديقي الحميم وزميلي في الصف ورفيق صباي عدنان حسين:

- اتعرف الرجل؟ انه كمال الطويل. ابن عم ابي. وراح يحكي لي عن الاستاذ كمال الطويل، ماجعلني اقلق منه حقا:

- هذا الرجل مدمن خمرة. ولقد جاء منقولا من مدرسته في الهور بعقوبة. ولكن مدير الناحية حوله الى مدرستنا. لان ابنه معنا في الصف. لكنه سيتفاجا باخلاقه وسيحاول نقله او استبداله. ثم اضاف عدنان:

- ساقول لك كلاما ويبقى سره بيننا اتقسم لي؟

- انت تعرفني!

- العام الماضي تزوج الاستاذ كمال من ابنة عمه نادرة ابنة الحاج سالم الثري المعروف ومنذ الليلة الاولى هربت الى بيت ابيها رافضة العودة له. وحين سالها اهلها عن السبب اجابت:

- اخاف من شاربيه. ولن اعود له حتى لو حلقهما. يبدو ان وراء خوفها منه سببا اخر كما يدور من حديث بين افراد العائلة. ولم يكن عدنان يدرك بسبب صغر عمره، مايكون السبب الذي يجعل فتاة تهرب من زوجها ليلة زفافها. ولم ادرك انا ايضا. بل راحت مخيلتنا الطفولية الواسعة تتسع اكثر فاكثر بحسب ادراكنا. سالته:

- اولم يحاول استعادة نادرة الجميلة؟. كنا في بداية بلوغنا المبكر. وكنا لانعرف معنى لرجل تتركه زوجته الشابة الجميلة الا معنى واحد هو الشذوذ.

- كلا. وقد تقبل الامر ببساطة. يبدو انه ارتاح للامر. حتى يشرب براحته.

وفي الحصة التالية دخل علينا السيد كمال الطويل وبيده خيزرانته التي اعتدنا منظرها فيما بعد. وراح ينظر بتمعن في وجوه التلاميذ. قال لتلميذين الاول واسمه مفيد والاخر اسمه محمد ان ياتيا يوم الجمعة الى مرسم المدرسة. ثم راح يجول في الصف. ثم اشار لي بعد ان راح ينظر في وجهي طويلا وقال:

- انت تاتي معهما. كان الامر مفزعا هز كل كياني. ولكن من كان يستطيع ان يقول للضبع انت تاكل الفطائس.

اعرف وبحسب مخيلتي الطفولية، واستنادا الى معطيات حديث صديقي عدنان لماذا اختارهما ولكني لا اعرف لماذا اختارني انا، وللان لا ازال لا اعرف. بل ربما اعزو السبب الى خوفي المفرط مما سيحدث لهما، فالفيلسوف بوذا يقول "ماتفكر فيه تجذبه لنفسك ". اذ كان مفيدا من اجمل طلاب المدرسة قاطبة. واما محمد فيليه في الجمال واما انا، فربما اختارني للتمويه او شيئا من هذا القبيل. ولست جميلا بالشكل الذي يغري، هذا ان كان يقصد الشيء الذي كان يدور في مخيلتي.

في يوم الجمعة ذهبت الى مرسم المدرسة وكانت غرفة صغيرة تقبع في مؤخرة القسم الاداري من المدرسة. كنت ذهبت متاخرا ليس كعادتي لاني كنت احترم الواجبات المدرسية وقد كنت الناجح الاول في جميع السنوات السابقة وكنت حريصا على الدوام جيدا. اخرت نفسي متعمدا اجر رجلي على الارض جرا لانني كاره المهمة وخائف مما سياتي بعدها.

حين دخلت غرفة المخزن او المرسم كما يحلو للسيد كمال ان يسميه وجدته في وضع بدا لي وضعا غير مؤدب – ربما لحساسيتي المفرطة بسبب نشاتي العائلية او بسبب حديث عدنان معي.

كان قد صف مفيد ومحمد جنبا الى جنب فيما ادخل هو راسه بين حوضيهما المترفين مما يعلو وركيهما والثلاثة يضحكون – هو والطفلان - اما انا فاستغل تاخري ذريعة ليطردني بسبب نظرة الارتياب البادية على وجهي امام المنظر الذي رايته بشعا. قال لي:

- لماذا تتاخر ولا تحترم الواجب؟ اذهب وانقل لنا قطع الطابوق الموضوع هناك في ساحة المدرسة لاننا نحتاجها في المرسم. ولا ادري ماهي حاجة المرسم الى قطع الطابوق. ولكني انصعت للامر وقمت بنقل الطابوق من ساحة المدرسة الى زاوية تبعد عن المخزن مسافة خمسة امتار ولا تشرف على مايحدث بداخله. كان الامر اشبه بالاشغال الشاقة بالنسبة لطفل صغير في شهر تشرين الثاني البارد. كان الطابوق من نوع الفرشي كبير الحجم كان يستخدم في تغليف السطوح انذاك.

كان قد امرني ان انقل الطابوق كله، وهو كثير، بما يعني ان اقضي ايام الجمع كلها دون توقف. اذ كان المعلم الها يامر ولايعصى له طلب ولا يناقش لانه خارج الميول والاتجاهات.

كان السيد كمال ياتينا بدرسي العلوم والتربية الوطنية. وكنت اخاف اضافة لخيزرانته الحادة التي يضرب بها بعشوائية العصبي المستهتر السكير. كنت اخشى الرسوب في درسيه. وبالفعل فقد كانت درجتا المعدل الاول هما 27في العلوم و 26 من مائة درجتي في الوطنية في الشهر الاول والثاني. ان الظلم ليس بجديد وهو ازلي. وصحيح اني شعرت بالاحباط لكن ماكان يطمانني ان الدخول للامتحان الوزاري يتقبل الاكمال بدرسين. وماهي الا هذا العام وسانتقل الى المتوسطة. وساخلص من هذه المشقة التي اسمها الاستاذ كمال المدمن المعقد.

من طبيعتي لا ادخل اهلي في مواضيع كهذه. ذلك اني ارى الموضوع مثله مثل كل المواضيع المعقدة لايمكنك ان تجعل المقابل يفهمك بسهولة. ولو اخبرت اهلي فكيف لي ان اقنعهم بان مافعله السيد كمال يخصني وحدي؟ ولماذا انا لاغيري؟ وانا لا اتمتع بجمال مفيد او محمد؟. المسائل العويصة تترك للظروف والمصادفات. فكما جلبتني الصدفة لهذا الاذى، فان صدفة اخرى قد تخلصني منه او الاكمال وهو اقسى الحلول.

كان اخي الكبير معلما هو الاخر وهو يعرف السيد كمال جيدا ولكني لم اجعله يتدخل في ذلك ربما لان كمال لا يعرف عني شيئا، كما واني احب ان احل مشاكلي بنفسي. هكذا هي نشاتي وهكذا خلقت مني الظروف. رجلا صغيرا.

قد يسال القارئ الذكي: وماهي علاقة الاستاذ كمال بالمرسم؟ وماذا يرسم؟ ولم؟.

الجواب هو ان مدارس الناحية دابت كل عام ان تقيم اسبوعا للنشاط الفني والمدرسي. تبذل فيه كل الجهود الابداعية للطلاب باشراف وارشاد معلم الفنية. وكان معلم الفنية في المدرسة الاستاذ يوسف ولم تكن للاستاذ كمال اي علاقة بالموضوع. بل اراد ان يتدخل لغرض في نفس يعقوب بحجة نقل خبراته السابقة في مدارس الارياف.

وهنا لابد لي ان اعرج على السبب الذي ادى الى عقوبة نقل السيد كمال. فهو في نهاية كل اسبوع كان يركب خلسة في احد لوريات النقل الذاهبة من والى المدينة. و بعد ان يشتري مشروب اسبوع كامل، يعود خلسة ويصعد في احد اللوريات التي يعرف انها ستعود الى الهور الى حيث تقبع مدرسته. ولكنه في هذه المرة قد اكثر من الشرب ونام. ولم يصل للمدرسة الا بعد ثلاثة ايام لان السائق اتجه وجهة اخرى. وحين حضر للمدرسة كان مخمورا كعادته مما دعا المدير للكتابة عليه بغية نقله وهذا ماكان.

اسبوع النشاط الفني يعقد في واحدة من مدارس الناحية بداية شهر نيسان على ما اتذكر.

كان الاستاذ يوسف مدرس الفنية فنانا حقيقيا. كان دمث الاخلاق، يشهد على ذلك مرسمه الشخصي الخاص الذي يرسم فيه لوحاته الجميلة. وكان الناس المهتمون بالفن يترددون على مرسمه. وكان بعضهم يقوم بشراء لوحاته الخاصة. وكان الاستاذ يوسف ينجز في كل عام معرضا فنيا يليق بالجائزة الاولى على عموم الناحية. وهذا العام كان سينجز المركز الاول لو تمت العملية دون تدخل السيد كمال في افشال الامر. وملخص ذلك ان كمالا هذا كان قد دخل المدرسة مخمورا تماما حين سمع مدير المدرسة يمدح بالاستاذ يوسف. كان يقول:

- الله ينطيه الاستاذ يوسف. سوف يرفع راسنا عاليا كما رفعه في السنوات الماضية. فانتفض الاستاذ كمال مثل ثور هائج على وقع كلمات مدير المدرسة. وقام بتكسير كل التحف الفنية الجميلة. ومزق اللوحات قائلا:

- نسيت دوري انا يا ابن الكلب. وكاد يضرب المدير لولا تدخل الحضور من المعلمين والفراشين.

فقام مدير المدرسة بالكتابة عن الحادث. وقامت لجنة تحقيقية بنقله واعادته الى الهور من حيث عاد. وقد يحالفني الحظ لاكتب عما جرى بعد ذلك للاستاذ كمال فقد عرفته جيدا، وعرفت عائلته.

 

* الاسماء التي ذكرتها وهمية.

 

مسلم السرداح

 

في نصوص اليوم