نصوص أدبية

حكاية من خوالي الايام (2)

moslim alsardah مر زمن طويل على تلك الحادثة حين تخرجت واكملت الخدمة العسكرية وخدمة العلم ومن ثم عيّنت مدرسا في محافظة قريبة. ثم بعد ذلك عدت الى محافظتي. وبعد سنوات عديدة مرت بها احداث واحداث منها تعييني في قضاء بعيد ثم نشوب الحرب ثم خدمة الاحتياط. ثم بعدها تم نقلي الى مدرسة ثانوية للبنات في القضاء الذي ننتمي له كلانا انا وهو. عندها التقيته هو بعينه وعيانه. اما كيف فذلك ما ساسرده الان.

كنت نائما الظهيرة حين ايقظتني والدتي قائلة لي ان رجلا بشوارب كثيفة يقول ان اسمه "استاذ كمال" ينتظرني عند الباب.

كان ذلك في الفترة التي كان يفترض فيها تقديم درجات الفصل الاول. سالني الرجل ان كنت اعرفه ام لا. وهل ينسى هذا الوجه؟. لكنني تجاهلته وقلت له انه يستطيع الدخول ان اراد.

دخل الرجل. انا اعرف الغرض الذي جاء من اجله. او قل حدست ذلك الغرض. فانا من الفطنة بحيث استطيع الربط بين الاحداث مهما تباعدت او تباينت.

هناك في احد صفوفي التي ادرسها مادتي الفيزياء والرياضيات طالبتان هما صوفيا كمال وهانوي كمال. وكنت اعرف ان الرجل ومن خلال تتبعي اخباره انه كان يدعي نفسه شيوعيا فسمى بنتيه باسماء العواصم الشيوعية ابان زهو الشيوعية. كانت البنتان جميلتان ومؤدبتان، ولكنهما لم تفلحا في النجاح في مادتي الفيزياء والرياضيات. ولهذا الغرض جاء يتوسلني. كان الرجل شجاعا حد التهور. فان تضفي على نفسك الشيوعية في بلد متناقض الافكار بل ومتصارعها كبلدنا فذلك رايك الخاص بك. اما ان تصبغ ابناءك بتلك الصبغة فذلك امر صعب. كان ذلك ابان فترة الجبهة الوطنية او ربما قبلها منذ مجئ البعثيين للسلطة.

كانت هناك بنات كثيرات اسماء ابائهن بالاسم نفسه. ولكن كان قد شاع في المنطقة وما جاورها ان هذا الرجل المجنون قد سمى بناته باسماء لايؤمن شر ماستجلبه الايام. ولذلك عرفت انهن بنات معلم العلوم والتربية الوطنية السابق. الايام دول. تضمحل دولة ليبزغ فجر اخرى. لكني لم اكن اشعر بذلك. ربما تواضعا او ربما حكمة. فالعدل لايدوم فكيف الحال مع الظلم.

وعدت الرجل بالمساعدة. ولقد وفيت بذلك. فانا منذ اول يوم في التعليم وانا اؤمن ان طلبة المدارس لهم فضل على الحياة في العراق. فانا قضيت اثنتين وعشرين سنة يضاف لها مايعادل السنتين خدمة عسكرية لاعيّن بعدها مدرسا خارج محافظته براتب يكاد لايسد احتياجاتي لوحدي انا. وكنت ادعو المدرسين زملائي الى مساعدة الطلاب على اعتبار انهم لو تسربوا خارج المدرسة سيكونون ضررا على المجتمع الذي نحن من افراده. كانت الفكرة تدهش البعض وخصوصا من هم على شاكلتي. اولئك الذين يشربون الخمرة ويقرؤون الكتب. اننا ننظر للطالب كانسان وكاخ وصديق. وهو سرعان مايكبر ليكون قائدا. وتضحك البعض الاخر من المتزمتين المتدينين ومن على شاكلتهم من النساء. اولئك الذين لاينظرون الى ابعد من موطئ اقدامهم. كان هؤلاء المتزمتون يصرون على ان التشدد في التربية هي من تخلق مايسمونهم الرجال. وكانوا يقولون انظر لنا كيف صرنا رجالا!!. اضافة لهذا فقد كان الرجل معلمّي ولقد تربينا على ان نكون اناسا مطيعين نحترم الكبار مع كل اخطائهم بحقنا. كان عفوي عن الرجل بمثابة شكر للظروف التي جعلت من كان سيد الموقف في يوم ما، يخضع لي الان، انا من كنت يوما اتمنى خلاصا من مازقي الذي انا فيه، منه.

صار الرجل بعد ذلك صديقا لي. وصرنا عندما نتقابل بالصدفة، يسالني عن احوالي واساله عن شؤونه الحياتية. وكنت كلما التقيت به كانت تضحكني عبثيته وخفة دمه. حتى انني التقيته مرة وقد تقاطعنا في طريقين متعاكسين كان يحمل بيده كيسين ورقيين. وقال لي:

- احزر ماذا يوجد هنا في كل كيس؟

- في احد الكيسين بالتاكيد خمرا. لكني لا اعرف مايوجد في الكيس الثاني. ربما يوجد فيه كتاب او مجلة؟. قلت له وقد نظرت فرايت ملامح كتاب فيه. فقهقه الرجل طويلا حتى راح شارباه الكثيفان يهتزان بطريقة سريعة. ثم قال لي:

- نعم هو كتاب. ولكن أي كتاب؟. هو والخمرة في تناقض تام. هل حزرت الان؟.

- كتاب ديني؟. قلت ذلك بعد وهلة من الضحك والتفكير.

- نعم هو قران. لقد اوصتني شقيقتي لجلبه لها. وقد جلبته بعد خروجي من الحانة.

كان ذلك اثناء استمرار حرب الحكومتين العراقية – الايرانية. وحين حمي وطيس الحرب، تفرق الناس لاننا كنا نسكن في منطقة حدودية محاذية لايران. ولم اسمع شيئا بعد ذلك من اخبار الرجل الا لماما. حتى كان يوما ما.

كنت مديرا لمدرسة ثانوية عندما جاءني احد طلاب المدرسة الثانوية اعرفه جيدا، وطلب اجازة لثلاثة ايام بسبب وفاة قريبه فلان. كان الطالب ابن اخ زوجة الرجل. ولقد كنت انوي ان ابعث سلامي للرجل عندما دخل الطالب الى غرفتي.

اسفت جدا لوفاة الرجل. ولكن الموت هو النهاية الطبيعية للجميع. لكني بدات افكر لايام طويلة، وللان، عن اسرار ذهبت مع الرجل ولم اعرف عنها شيئا. من تلك الاسرار هو قيامه بالقاء المحاضرات السياسية في مقر حزب البعث في المنطقة ابان السبعينات ايام الجبهة الوطنية. كيف تم ذلك وهو الشيوعي المعروف. اتساءل هل كان الرجل شيوعيا حقا عندما اخذ الطالبين الى مخزن المدرسة؟ وماذا كان يعمل معهما؟.

الان انا اعطي عمري لمن يجبيني على هذا السؤال المحيّر..

 

مسلم السرداح

 

في نصوص اليوم