نصوص أدبية

الغبي

alwan husan ولدت غبيا ً، هكذا جئت إلى الدنيا غبيا ً دون علم ٍ مني. كان أول من أطلق علي َ هذا الوصف هو معلم الحساب، ثم تلقفه أبي منه فلم يعد يناديني إلا به وصرت أعامل على أساسه ولم أحصل من الطعام إلا على وجبات ٍ ضيئلة يقابلها وجبات دسمة من العقاب. كنت أشرد بتفكيري كثيرا ً وكان يحلو لمعلم الحساب مباغتتي بسؤال من جدول الضرب، أجمد من الخوف وأرتبك فأرتكب من الأخطاء جسيمها فيزغرد كف على وجهي بغتة، كف هو من القوة والشدة أكاد أسمع صفير الهواء المحبوس داخل طبلة أذني. بعدها يأمرني بوضع يدي َ على الطاولة فينهال بالمسطرة يستخدمها حادة ً كالسكين من حوافيها حتى تتورم يداي َ ويذبل وجهي وأعود إلى البيت منكسرا ً مسحوقا ً شاكيا ً لأمي ما حصل لي تأمرني أن أكتم الأمر كي لا يسمع به أبي فيغضب مني لكنه ولست أدري كيف كان قد تشمم الخبر وعلم بكل شيء. أمام جبروت أبي وقسوته تبدو علقة المعلم نوعا ً من دعابة.

أبغض الناس إلى قلبي هم المعلمون والآباء. كان أبي أقسى مخلوق ٍ عرفته وأشد بطشا ً حتى من جلاوزة الشرطة. في سنوات طفولتي لم يبق مكان في جسمي إلا وكان أزرقا ً من الضرب. كانت المدرسة مركز تعذيب وكان البيت منفى. وقتها في تلك السنوات الموحشة كم وددت لو أكبر سريعا ً لأغدو قاتلا ً أو سفاحا ً أو رئيس عصابة. كان جدول الضرب هو عدوي الأول، وكان معلم الحساب هو الجلاد وأبي بسحنته الصارمة وشواربه الكثة وعينيه اللتان تقطران شررا ً يعض لحمي الغض بأسنانه ويود لو يمتص دمي ولم أكن أعرف سببا ً لكراهيته لي سوى غبائي. كان يشمت بي بكل مناسبة ويسخر من إرتباكي وتلعثمي أمامه حين يحاول إمتحاني فأخطأ حتى بالمسائل التي كنت قد حفظتها عن غيب. لم أعد أطيق الجلوس على طاولة الدراسة وصارت جدران الصف بالنسبة لي أشبه بالسجن فعثرت على متعتي الوحيدة وهي الهروب من المدرسة والتجوال في الشوارع على غير هدى. كنت أسلي نفسي بالتحديق في وجوه الناس باحثا ً عن الفرق مابين الرجل الشرير الذي تؤكد لي قسمات وجهه الصارمة ونظراته التي يسلطها على الآخرين وآخر يبدو لطيفا ً رقيقا ً من وداعة ملامحه وبشاشة وجهه وعينيه الباسمتين. كم بدت خرافة حنان الأبوين بليدة وتدعو للضحك، وكم كنت مضحكا ً وأنا أبحث في داخلي عن قطرة حنان رضعتها من ثدي ما يسمى بالعائلة. لم يعد ثمة بستان أو غابة نخيل أحتمي بظلال أشجارها ولا طاحونة يأسرني صوت رحاها وهي تسحق الحنطة وكأنني أصغي لموسيقى رتيبة يترنم بها الحجر. في القرية كنت أطارد الفراشات وأركض كغزال بري دونما خوف، وكان كلبي الصغير يعدو أمامي مرحا ً، أشعر به يضحك وكنت أعجب منه، ترى ماذا يضحكه، أيود أن يدخل السرور إلى قلبي ؟ يا لجماله ذلك الكائن البديع.

في الليالي الصيفية حيث يحلو النوم على سطح الدار كنت أطيل النظر إلى السماء التي كانت أشبه بغابة مزروعة بالنجوم، سماء من شدة قربها أكاد ألمس نجومها وأقطفها عناقيد من لؤلؤ يخلب الأبصار.

مدينة الثورة حيث بيتنا الجديد بشوارعها الترابية لا تكاد تعثر فيها على ظل شجرة أو نبتة مغروسة في مكان ٍ ما ولا أثر للنخيل ولا أشجار النارنج وليس ثمة من ساقية ولا نهر، بدت لي المدينة أشبه بصحراء شمسها حارقة وعواصفها ترابية وعبثا ً البحث عن شجرة التوت التي أحب ولا حبات التمر اللذيذة المذاق. في التاسعة من عمري رحت أستمتع بالتدخين وبالتسكع في شوارع شبه مهجورة ٍ وأدمنت أرتياد دور السينما معتمدا ً على نفسي في بيع السجائر والعلكة لروادها الهاربين مثلي من قسوة الحياة وبطشها.

 

علوان حسين

 

في نصوص اليوم