نصوص أدبية

عبد بربن

ahmad alhili وفد إلى مدينتة الحلة قادماً من بغداد التي ظل فيها ردحاً من الزمن هو وعائلته شخصٌ كبير السن نحيل الجسد ويبدو أنه عانى كثيراً من شظف العيش والفقر والعوز، فاضطر إلى العمل كبائع عربة جوّال.. كان كادحاً حقيقياً.

اسم هذا الشخص؛ عبد بربن.

وبمجرّد أن تنطق باسم بربن بين أهل الحلة حتى يتبادر إلى ذهنهم العائلة المرموقة التي يتميز أفرادها بالطرافة والمواقف المضحكة، واشتُهر بشكل خاص كبير العائلة لطيف بربن، الذي هو أشهر من نار على علم كما يقولون في ميدان الطرافة والنكتة، وهو الأخ الأكبر لعبد بربن.

وعلى الرغم من صعوبة الأمر، وضرورة توفير لقمة العيش خاصة خلال فترة الحصار الاقتصادي، إلا أن عبد بربن لم تفارقه النكتة، فهو يُطلقها في الفضاء من حوله، ويضحك لها ملء فمه بضحكة مجلجلة عُرِف بها وأصبحت ماركة مسجّلة باسمه، كما يضحك كل مَنْ حوله، مختلسين من القدر وقتاً خاصاً بهم وسط هذا التجهم والقسوة المفرطة.

 اعتاد أن يبيع الباقلاء صيفاً واللبلبي شتاءً على عربة معدنية ثابتة وضعها أمام عمارة العزاوي في شارع الإمام علي، وكان يقف من حوله عدد من الأشخاص الذين لديهم رغبة في سماع مماحكاته مع زبائنه الذين ليس لديهم إلمامٌ كافٍ به، وكان بين هؤلاء عدد كبير من الريفيين.

في إحدى المرات أخذ شخصٌ ريفيٌّ يأكل الباقلاء ويرمي القشور على الرصيف، انتهره أبو إيهاب (صاحبنا)، قائلاً له لماذا ترمي القشور على الرصيف وقد وضعت لكم آنية للقشور، قال الريفي بسذاجة وبلاهة ؛ وشراح يصير؟

- أنتَ ربما لا تعلم، أنني أجمع القشور يومياً من أجل أن يعيدوا تعبئتها لنا مرّة ثانية!

وكثيراً ما يحدّق بعض هؤلاء بوجهه، يقول له أحدهم ؛ تسمح لي أن أسألك سؤالاً على أن لا تزعل؟

- تفضّل اسأل، فأنا عادة لا أزعل من أحد.

- أنت رجل كبير السن ووقور، فلماذا لا تربّي شاربك؟

- خلي أربي أولادي قبل ذلك!

ومعلوم لدى الأصدقاء أن لدى أبو إيهاب أبنين شابين عاطلين عن العمل تسببا له في الكثير من المشاكل..

حين علم أبو إيهاب بأمر المجموعة التي تلتقي كل يوم عند جرف الشط في أسفل مقهى أبو سراج، كان يقتطع يوماً في الأسبوع متعللاً بأعذار شتى ليترك ابنه يبيع الباقلاء مكانه ويتوجه فوراً إلى المجموعة حاملاً معه كيساً كبيراً من الباقلاء المسلوقة.

في أحيان كثيرة لا يتمكن من بيع كل بضاعته المعروضة، الأمر الذي يضطره إلى إنزال المعجانة الكبيرة إلى أسفل درج العمارة الذي استأجره من مالكها، وقد يكسد السوق ليومين آخرين، فيبقى اللبلبي القديم يتداور مع الحمص المطبوخ حديثاً، إلا أنه واقتصاداً في النفقات لا يشتري كِسراً أي عظماً كبيراً جديداً، مكتفياً بوجود العظم القديم الذي يتجرّد تماماً من بقايا اللحم ويصبح لامعاً، في إحدى المرات سأله أحدهم عن العظم وكم يوماً مضى على وجوده مندسّاً في اللبلبي، أجابه على الفور وكأنه يتوقع أن يسأله أحدهم هذا السؤال ؛ هذا ليس عظماً حقيقياً وإنما عضم عاج.

رأيته في أحد المرات، وأنا عادةً ما أصعد درج العمارة وأقف إلى جواره، كان الوقتُ عصراً حين أكمل كلّ شيء، كان كوم اللبلبي كبيراً يتربع عليه عظمٌ جديد والبخار يتصاعد من الحمص المطبوخ، وأبو إيهاب في غاية النشوة والمرح وهو يضرب بالݘمݘة على العربة منادياً على بضاعته ؛ لبلبي طيّب!

في هذه اللحظة توقف شخص بسيارته الفارهة ونزل منها، ثم ألقى نظرة على كمية الحمص المطبوخ الذي لم يبع منه أبو إيهاب ولا كاسة واحدة قال ؛ أريد لبلبي، قال أبو إيهاب وهو يحاول أن يصب له كاسة ؛ تفضّل!

- لم أقصد ذلك فأنا أريد شراء كل اللبلبي الذي لديك، كم تطلب ثمناً له، فكّر أبو إيهاب قليلاً بهذا الطلب المباغت، وأجرى عملية حساب سريعة، قائلاً له السعر كذا، قال الزبون ؛ موافق، هيا لنتعاون على نقل المعجانة إلى صندوق السيارة

أخرج الرجل مبلغ المال وأعطاه له، ثم أعطاه مبلغاً إضافياً كتأمينات على المعجانة التي أكد أنه سوف يعيدها له في غضون ساعة، وانطلق بسيارته...

بدتْ على وجهه علائم البهجة والانشراح، لأنه باع بضاعته بهذه السرعة، بعد ذلك رأيت إمارات التجهم والحزن وهي تخيم على سيماه، ثم ليُطلِق شتيمة ؛

- هذا اشسوّه ابن القحبة!

 قلت له؛ ماذا هناك، هل هناك نقصٌ في المبلغ الذي أعطاك إياه؟

- كلا، فهو أعطاني المبلغ كاملاً وزيادة، ولكنني أين أذهب الآن؟

بقي أبو إيهاب وهاجس النكتة لا يفارقه حتى أخريات أيامه، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بمستشفى مرجان للأمراض الصدرية، قبل ساعات من موته زار الطبيب المتخصص الردهة التي يرقد فيها وسأل عن (طبلته) التي من المفترض أن تكون موجودة عند مقدمة سريره، اعتدل أبو إيهاب قليلاً من سريره وأجابه ؛

- لقد أخذتها الممرضة من أجل أن تدق عليها!

 

أحمد الحلي

 

في نصوص اليوم