نصوص أدبية

عودةُ الحكّاء...

anmar rahmatallaفتح عينيه محدقاً فلم ير غير العتمة. أحس بشيء ثقيل يجثو على صدره. ثم حرك يده الخادرة فانهال على جانبها تراب رطب. أخرج لسانه من فمه متذوقاً طعم التراب. ثم تفله بعد امتلاء فمه بالملوحة.راح يخربش بيديه التراب الطري. يخربش ويخربش حتى انهال جزء. فتشجع وكرر الفعل مرة بعد مرة. حتى كشفتْ له السماء عن وجهها. وبان له المكان بوضوح حين مسح عن وجهه التراب. كان قلبه يتحرك بشدة. وهو يطالع أرض مقبرة القرية التي غمرتها الأمطار الغزيرة.هرول على الطريق المؤدي إلى القرية متعثراً بحفر طينية.شبحه استفز الكلاب. والتي بدورها نبَّهت حارس بوابة القرية بنباحها لما رأت شبحاً يتمايل ويبرك بين الحين والحين.صرخ الحارس بحزم وهو يحمل عموداً بيده (من هناك....؟). سقط الرجل الآتي على الأرض وقد افلتت من فمه آهة.هرع إليه الحارس وحين تعرف عليه توسعت عيناه وهتف بقوة :(من...؟حكّاءُ القرية ؟!).

في صباح اليوم التالي عرف (الحكّاء الشيخ) أنه قد توفي قبل ليلة. وأن أهل القرية قد ارسلوه بيد دفان ليدفنه في المقبرة القديمة.الحكّاء لم يستغرب من عودته إلى الحياة. ولم يستغرب من كفنه البالي. ودفنه في قبر رخيص رخو. بل جلَّ استغرابه كان من تصرفات أهل القرية وترحيبهم الفاتر بعودته. ففي الماضي كانت حزمة أيام من السفر يقطفها الحكّاء الشيخ. توقف القرية ولا تقعدها تهليلاً وترحاباً به.فتُذبَح الخراف. ويتباشر الناس..اليوم لم يكترث بعودته أحد قط.(كل هذا بسبب ذلك الوغد...) هكذا أعلن الحكاء في سره. مستذكراً تلك الأيام المجيدة. حين تلملم الشمس غدائرها وقت الغروب. وتستضيف القريةُ الليلَ الأدهم ذا الأنفاس الباردة. وحين تحدث نوبة كالفزع في القرية. فيقفل الباعة أفواه الدكاكين. وتضرب الدروبَ ضرباتُ الأقدام المغادرة. وتملأ الفضاءَ روائحُ الأعشِية المتصاعدة.المنازل تفتح أحداقها المضيئة. الأطفال ترقب الأمهات المنهمكات في تحضير الموائد. الرجال تدلف إلى المنازل في استنفار عجيب. الغريب عن المكان سيصيبه الذهول حين يرى السكون يلقي بعباءته على جسد القرية. ملاحظاً الجموع وانخراطها كالعقد المقطوع. فيظن من يظن أن وحشاً سيداهم القرية. أو عارضاً أو زلزالاً سيلتهم سكينتها. لكن القرية على هذا الحال. منذ أن وطأ (الحكّاء) أرضها وخالط أهلها. وسمعوا منه حكايات الجن والشياطين وفرسان الخرافات والوحوش والغيلان.فصار الحكّاء ذو اللحية البيضاء مُنتهى المطاف اليومي لأهل القرية.يجتمع الناس في مجلسه الليلي الذي يتمدَّد على ظهر الشارع. إذ تُفرَشُ الأرض. وتُثنى الوسائد. وتتراقص أشباح دخان البخور. والروائح الزكية. وَيُطرَدُ الأراذل الزاحفون إلى الصف الأول في المجلس. ويُقدَم وجهاء القرية وأكابرها. منتظرين الحكّاء الشيخ إذ يقبل ماسكاً عصاه التي يلكز بها الأرض بحزم. حاملاً في صرته حكايات عن الماضي السحيق وأهواله..لحكّاء القرية مكانته العليا. ومكانه المخصص الذي يقصُّ على الناس فيه حكاية كلَّ ليلة.حكاية تفوح منها روائح الساحرات والشياطين والوحوش والسراديب. فيتبول الأطفال في سرواليهم. وتتغشى النساء بعباءاتهن. ويكبِّر الرجالُ دهشةً.والحكّاء مسترسل في كلماته التي ينثرها في عقول أهل القرية. التي ربت واهتزت ونما فيها الإعجاب والتكبير والاحترام لشخص الحكاّء وسطوة حكايته. حتى أن أهل القرية أطلقوا على قريتهم اسم (قرية الحكّاء). فعُرفت بين القرى بهذا الاسم. وذاع صيتها وصيته في مسارب الأقوال والمجالس.

الحكّاء ماضٍ من نصر إلى نصر...حتى انتبه ذات ليلة إلى مجلسه. وقد تآكل كما يتآكل الجرف من صفعات الموج.لم يكترث واسترسل في حضوره الليلي.لكن خشيته تبدلت إلى هلعٍ. حين رأى ذات نهار صغاراً في دربٍ من دروب القرية. يتبارون في ما بينهم. في أفضل من يقصُّ حكاية عن المستقبل. أحمر وجه الحكّاء الشيخ حين سمع كلمة (المستقبل) واستيقن أنها كلمة دخيلة على آذان القرية وأهلها. فراح ينصتُ إلى طفل يحكي إلى أقرانه الحكاية. فتبعه طفل آخر بحكاية جديدة. وتبعه ثالث.فتسارع نبض الحكّاء متسائلاً (من علّمَ الأطفال هذا الكلام..؟).عاد إلى منزله في ذلك اليوم. بخطى أثقلها السؤال. وعينين ملأهما العجب. وقلب خالطه الفضول.

جهز حكّاء القرية نفسه ليلاً. متعطراً بأطيب العطور. مزهواً بالملبس الحسن. مختالاً بعصاه التي حفظت الأرض نقراتها. متوجهاً إلى مجلسه المعتاد.استوقفته الدهشة. حين صُدِمَ بنزارة عدد الجالسين وقلَّتهم.فاضطر إلى سحب احدهم هامساً في أذنه:(أين اختفى الناس وماذا شغلهم عن مجلسي؟). فأجابه فاضحاً ما كُبِتَ في صدره وصدور القلة الباقية في المجلس:(لعل المتخلفين عن مجلسك سيدي قد طابت لهم حكايات حكّاء شاب جديد. اقبل إلى القرية مؤخراً). أخذت هذه الجملة من وقت الحكّاء الشيخ بضع ثوان. وبعدها انتبه إلى نفسه وقد طال سكوته. ثم اعتلى منبره ليكمل على مضض حكاية تلك الليلة.ثم توجه محثوثاً بالفضول القاتل صوب مجلس الحكّاء الجديد خفية. تفاجأ حين رأى البسمة والابتهاج قد طرزا محيّا الأطفال والنساء والرجال. وعلامات الرضا والاستحسان البائنة في حركات رؤوسهم. وانجذاب أسماعهم. فانزوى متلفعاً في طرف المجلس. مستمعاً لحكّاء شاب. وحكايات عن مستقبل كان يصف لهم ضياءه ورونقه. ارتعشت عينا الحكّاء الشيخ. واحسَّ بحرقة توزعت على مساحة صدره. فنفض عباءته وهمَّ بنفسه طارداً إياها. راجعاً إلى منزله في تلك الليلة.

***

مرت أيام قلائل. والحكاء الشيخ منشغل بتطريز حكاياته العتيقة. فاستبدل في حكاية ما دور الشيطان بساحرة. واستبدل بأخرى دور الغول بسعلية. متمنياً الرجوع إلى سالف عهده. وقديم عزه ومجده... نفض الحكّاء الشيخ أفكاره. وهمَّ ليتأكد من رتاج بابه. ثم عاد إلى فراشه مستسلما لعفريت النعاس. أودع رأسه الوسادة. وما إن أغمض عينيه. حتى طافت به الأماني والأحلام. تراءت له القرية هازجة. مرحبة. منحنية لهيبة حكّائها الوحيد. وكيف أن مجلسه قد عاد يغمره الحضور بالتصفيق والتكبير. وهو كالساحر يخرج لهم من كمه الحكايات المدهشة.كانت هذه الليلة هي آخر ما تبقى في وعاء ذاكرة الحكّاء الشيخ قبل موته.فهو لم يعلم أن سَّقّاء القرية العنيد. هو من وشى باكتشاف موته. بعد أن طرق الباب كثيراً. وحين لم يجد مجيباً. مدَّ عنقه من نافذة المنزل ليجد الحكاء متمدداً بلا حراك.ومن ثم انتشر الخبر بين أهل القرية الذين تجمهروا في مابعد. وأعدّوا مراسيم بسيطة لدفنه..كرر الحكّاء بينه وبين نفسه:(كل هذا بسبب ذلك الوغد.. إنها فرصتي...لقد منحني القدر إياها. ولن يفلت الحكّاء الشاب من عقابي. ولن أفوّت هذه الفرصة)

***

بدأ الحكاء الشاب مجلسه. الجموع متلهفة. الآذان صاغية. الأحداق تطالع بشغف. يقصُّ أقاصيص وحكايات عن المستقبل وأبطاله.في تلك اللحظة توقف الحكّاء الشاب عن الكلام وقد رمى نظره إلى باب المجلس. فاستدارت الرؤوس صوب الباب. وإذا بالحكّاء الشيخ.دخل ناقلاً أقدامه على مهل يجسُّ الحاضرين بطرف عينيه.استمر ماشياً حتى وقف في موضع مميز وهتف بأعلى صوته: (أتيت اليوم لكي اشهد وأبارك للقرية حكاءها الشاب. بوركت وبوركنا بك يا بني..اكمل حكايتك)..حين انتهى مجلس الحكّاء الشاب وهامت أشباح الناس في الدروب راجعة إلى منازلها. كان هناك شبح وحيد يكمن في الظلمة. حاملاً خنجراً صقيلاً. الحكّاء الشيخ خانس في زاوية عتيمة. ينتظر قدوم غريمه. وبالفعل أتى الغريم يخفُّ به السير زهواً. حين وصل اختطفته يد الشيخ غيلة وسحبه غارساً في ظهره الخنجر. أدار الحكّاء الشاب جسمه ناحية قاتله مشيراً إليه بيده. وفي حلقه شخرة يخالطها صراخ مكبوت. الحكّاء الشيخ رجع إلى الوراء يشخص خفوت أنفاس ضحيته. وانسلال روحها. فلم يكتف إذ عاد إلى الجسد الملقى على الأرض. مركزاً في طعنته إيغالاً. حتى كاد طرف الخنجر أن يخرج من الجهة الأخرى.

لما أصبح الصباح. وشاع الخبر. هرع الناس. وناحت النسوة. وفُزِعَ الأطفال. واحتشدت الحشود. كان الحكّاء الشيخ على رأس الحاضرين. يلعن صارخاً المجرم الذي اقترف جرمه. داعياً عليه بالفضيحة والذل والحتف. شيّعت القرية الحكّاء الجديد إلى مثواه الأخير. حيث هزت الأرضَ أقدامُهم. وأجفل الطيورَ صراخُهم وبكاؤهم. يتقدمهم تابوت الحكّاء الشاب. يتقدم الجمع سائراً وراءه نفر من كبار القرية يتوسطهم الحكّاء الشيخ. مشيعاً ومستذكراً معهم محاسن فقيدهم وجميل ما صنع. وأطفال يطوفون كالحمائم حاملين أزاهير بيض. قاذفين في قلب الحكّاء الشيخ الضيق والحزن. حين رأى غريمه ينال المجد والتفخيم حتى هذه اللحظة. عاشت القرية أياماً من الحزن لرحيل الحكّاء الشاب. كلهم حزنوا سوى حكائهم القديم الذي راح يعلن من جديد عن مجلسه القديم وحكاياته العتيقة. عن فرسان الخرافات والساحرات والشياطين والسراديب والغيلان والمسوخ. من جديد راح يجهز نفسه مستذكراً حكاياته. ململماً أطرافها. في كيس مخيلته. ماسحاً عن وجهها التراب. وبالفعل عاد مرة أخرى. في تلك الليلة حين اخبروه أن مجلسه قد جهز. فلم تسعه الفرحة. معطراً أثوابه. حاملاً عصاه التي كان يلكز بها وجه الأرض. متوجهاً إلى المجلس المخصص. لكن صدمته كَبُرت هذه المرة حين رأى المجلس. لم يحضر فيه سوى نفر يُعدون على أصابع اليد الواحدة. تساءل الحكّاء الشيخ عن سبب قلة الحضور. فرد عليه احدهم مستنكراً قلة الحضور: (أهل القرية الجهلاء يا سيدي. دخلوا إلى بيت الحكّاء الشاب. ووجدوا عنده الكتب التي كان يأتي منها بالحكايات البلهاوات عن ما يدعونه المستقبل. فهمّوا بالكتب ووزعوهن على المنازل. وصاروا يجتمعون كل ليلة. أربابُ الأُسر. ويقرؤون القصص ويتسامرون مستذكرين تلك الأيام. حالمين بحكاياته). تسمَّر الحكّاء الشيخ في مكانه. متجهماً مرتعشاً في ذهول. مرت دقيقة عليه كأنها دهر. ثم أدار للحاضرين ظهره وسار على مهل وقد صبغ وجهه الشحوب. نادوا وراءه لكنه لم يلتفت ماشياً صوب الظلمة. رامياً عصاه في مكان. وعباءته في مكان آخر على التوالي. حتى خرج من سور القرية مثقلاً كأنه جريح حرب. متوجهاً صوب قبر طري مكشوف في مقبرة القرية.

 

أنمار رحمة الله

 

في نصوص اليوم