نصوص أدبية

دَمُ الـــــكلامِ

souf obid أغنياتُ أمّي تُهدهدني

رأسي على ركبتها

المغنّي الشاعرُ البدويُّ

بمئزره الأبيض

عصاهُ

صوته الجهوريُّ

المَحفل حوله أذانٌ وعيونٌ

…وأنا

لو أنني وجدت في حَوشِنا المنقور في الصخر قرب بئر الكرمة بأقاصي الجنوب آلةً موسيقية لكنت من الموسيقيين؟ ولو أنني تعرّفت على نوادي السينما لكنت ربما من خلف العدسة العجيبة؟ ولكنني من عائلة بدويّة يسري في عروقها دم الكلام سواء كان ترتيلا أو شعرا أو خرافات و أخبار النجع في حلّه وترحاله

في عهد الصّبا وإلى أن صرت يافعا كنتُ لا أقدر على الكلام الطّلق الذي يجري على ألسنة الناس بيُسر وسلاسة فكنت ألاقي العنتَ والعذاب في الكلام حرفا حرفا كلمةً كلمة فهذه القاف الحلقية تكاد تسُدّ النّفَس حتى سكرات الاِختناق وتلك الراء اللسانية تجعل من اللسان سوطا يقرع جوف فمي أما الباء الشفوية فهي الإبرة والخيط وكفى بي غَمًّا وهَمًّا

قال لي سيّدي المعلم مرة بعد طول الاِنتظارـ اُكتبْ المحفوظات عوض سَردها ـ عندئذ اِسترحتُ من عناء الكلام وأرحتُ سيدي أيضا من فَأفأتي وتَمتمتي

شكرا لك سيّدي ! فقد اِكتشفتُ وقتذاك لذة مداعبة القصيدة وهي تنساب من أناملي عبر القلم والحبر على الورقة

مضى بي العمر سريعا فاِنحلت عقدة لساني وصرتُ أكتب القصيدة من وجداني

ولكن

أيُّ معنى للكلمة في عصر صار كل شيء فيه خاضعا لسلطان الإعلام

أيُّ إحساس للإنسان في عصر كل شيء أضحى يخضع لقاعدة العرض والطلب وفي عصر باتت السيطرة ممكنة على الأذواق والأفكار فأصبحت الشعوب تُقاد فيه إلى ما يُرادُ لها من تدبير وتدمير

ما كنتُ أحسب يوما أن الحرب العالمية الثالثة قد وقعت وأننا عشنا في رَحاها سنوات من حيث لم نشعر بها هنا أو هناك في شتّى نواحي العالم وأنّ ـ النّمر الورقيّ ـ هكذا كنا نسمّي الولايات المتحدة الأمريكية, أن ذلك النمر سيتغوّل وسيلتهم الدُبّ ,دبّ الاِتحاد السوفياتي الذي اِنهار وتفتّتَ

أيُّ معنى للشعارات عندما تدوس الدبابات الصينية الطلبة وهم يطالبون بالحرية يا ماوتستونغ؟ وأيّ معنى للثورة عندما يجوع ـ الرفاق ـ في شِتاء روسيا يا لينين؟

أيّ معنى للديمقراطية وللتقدم وللحضارة وللحداثة عندما تدعم الدول الغربية أنظمة الدكتاتورية وتقف ضد حركات التحرر فلا ترى إلا مصالحها ومصالح شركاتها الجشعة؟

أيّ معنى للقيم الإنسانية النبيلة عندما تستغل بعض الأيادي الخفيّة الأديان لحشد البسطاء الطيبين ولاِستباحة الدماء ونشر الدّمار كي تصل إلى كرسيّ السلطان الذي به تَنهب خيرات الشعوب

أنا من جيل اِكتوى بالهزائم والخيبات وترشّف كل صباح مرارتَها في فنجان القهوة

أنا مع أولئك الذين يمشون على خريطة عربية كل شيء فيها وحولها يدعو إلى إعادة طرح الأسئلة حول القناعات الجاهزة؟

كان الشاعر العربيّ القديم نبيَّ قومه

له الحكمة والمعرفة

الخيل والليل

الصحراء

وأجمل النساء

كان الشاعر العربيّ القديم يملك كل ما يرى في لغته ولكنه اليوم بائس الحال لا يستطيع أن يملك ما حوله بل لا يملك حتى ما بين يديه من أشياء فهو غير قادر بلغته العربية أن يسمّيها بفصاحة ودقّة

كان الشاعر العربيّ القديم متفاعلا مع بيئته ومحيطه وعصره في لغته التي اِستوعب بها ما حوله إنما هو اليوم يبدو أبكم

أو كالأبكم بسبب قاموسه المحدود الكلمات

مالك الشيء وصانعُه يسمّيه

وفاقدُه لا يُعطيه ولا يُسمّيه

فكيف نُبدع في عصر حضارة نحن نعيش على هامشها

هل نكتب شهادة اِنقراضنا؟

 

سُوف عبيد

 

في نصوص اليوم