نصوص أدبية

دهليز الإرث

bashir omari تذكر وهو يرتاح من تعب السرادق، أنه كان قد نشر شيئا من دخان نفسه المشتعلة حزنا بحاسوبه المترهل، حين نثر بعضا من غبار التراب الأحمر الحي لقبر والده الجديد، حيث يجثم بسمرته في الإنترنت، شيء من روائح الموت أسكتت صخب الافتراض المدوي في أصقاع الراهن، ودق الحزن الصامت بأجراسه الحزينة على مواضعه في ذلك العالم المعدم المسافات والمساحات، عالم لم يزره والده رغم أنه كان على بعد أنملتين منه، لكنه لطالما اعتبره أبعد من كل العوالم التي تختفي في قيعان الأخيلة.

صعقه فيضان علبة الرسائل بالنت بذلك السيل الجارف وغير المتوقع من توقيعات التعازي، كانت كلها بأحزان باردة، بعضها تعفن لطول مدة مكوثها في تلك العلبة، العزاء الافتراضي فوق الثلاث، هو كالتهادي بالزهور البلاستيكية، قال في نفسه، لكنه مع ذلك أستمر يفتحها الواحدة بعد الأخرى، وكلما انتهى من قراءة رسالة نظر إلى صورة صاحبها فلا يرد بكلام، لا كتابة ولا صوتا ولا حتى في دخيلته، كان يكتفي بقراءة العبارات والنظر إلى مرفقات تلك الرسائل من صور وإيموشنات، بعضها تحمل دمعا وبعضها ألما وبعضها ورودا.

حتى إذا وصل إلى تلك الرسالة اضطربت مشاعره، فقام واستقام في موضعه وهو يعيد قراءتها المرة تلوى الأخرى، كانت تعزية بألف من مثلها، كيف للمواساة المرفقة بمواعدة أن تختلف من شخص لأخر، وكف عن تفتيح بقية الرسائل، نظر إلى ساعته، أغلق الحاسوب، لبس حذاءه الأحمر الجلدي الطويل وصفق الباب بقوة وسرعة من خلفه.

نزل من الحافلة مسرعا مقتحما على عجل باب العمارة، فتش بسترته، حيث دفن في أحد جيوبها السحيقة مفاتح بيت العائلة القديم، يوم دفن والده تحت التراب، ثم أدخل المفتاح في قفل باب البيت وأداره، فاجتاحه من وسط الظلام الدامس هواء معطر بذكريات موجعة عمر بعضها لا يعدو أربعة أيام فقط، تذكر آخر مرة جاء لأخذ والده إلى المستشفى فإذا به يجده قد ختم قصته مع الشمس بنقطة نهاية صادمة صامتة على كرسييه المتحرك، والجريدة التي وجدت على فخذيه الكسيحين، مفتوحة على مقالته الأسبوعية الأخيرة عن سر انهيار أسعار النفط بالسوق العالمية.

ضغط على الزر بالحائط كي يقدم النور لكن من دون جدوى، راح يتخبط في مغارة الحزن تلك، يصطدم بطاولة هنا ويتعثر في إناء هناك، حتى وصل حيث الثلاجة بالمطبخ، أدخل يده في درج بابها أين اعتاد ولده وضع الشمعة، ثم واصل المغامرة في ظلام المغارة يبحث عما يوقد به الشمعة تذكر ولاعة والده الأخيرة التي بالكاد تختزن آخر قطرة من الغاز قد تنجح أولا تنجح في المحاولة الوحيدة لإشعال الشمعة، فأوقدها ولاح وميض خافت من نور أصفر مائل للاحمرار متراميا في جنبات البيت، فحوّله إلى لوحة تجريدية من ألوان مستويات تدفق النور على جدران متقطعة متداخلة تخفي في طوياها وطلائها الباهت القديم قصة عمر بعيدا مليئا بالرمزية

قرر أن يطوف بالشمعة في زوايا البيت فأشعت ببياضها ورقة من تحت الباب، كان بها رقم مزدوج يجر خلفه أصفارا عدة ومتراصة، فأطل من خلف الشباك فرأى النور يشع من بيوت الجيران، أدرك حينها أن الكهرباء مقطوع بسبب الفاتورة تلك، طواها أربعا كما اعتاد والده فعله من قبل ووضعها في الجيب الخلفي لسروال الجينز الازرق الداكن الذي لم يغيره منذ شهرين.

راح يستكمل مسيرته في البيت وقد بات ليله ثلاثة، أحدهم في الخارج حيث يهزمه الناس بنور نيران جيوبهم الحامية، وآخر في الداخل، بين الجدران مترهلة، جثم على صدر وركبتي والده وبعث به إلى ظلمة أقتم وأظلم في القبر، والثالث في قعر نفسه، كانت الشمعة أضأل وأهزل بكثير من أن تنتشله منه، أصوات بلا صور، قسوة الظلام البارد تقتحمه من كل جوف في جسده وخاطره، حتى نسي لمَ هرع إلى بيت والده هكذا بعد أربعة أيام فقط من إهالة التراب عليه في أقصى المدينة.

فجأة سمع من خلف الظلام الذي حول البيت إلى دهليز، أقراع قدمين حازمتين تتعاظم شيئا فشيئا كأفلام سينما الرعب وهي تطوي المسافة باتجاه باب البيت، استبقها إليه لينتظرها على العاتبة حاملا شمعته المتراقصة على هبات الريح الخافت، لم يكن هو، لم يكن قد واعد بالبيت سوى ذلك الطويل صاحب المعطف الرمادي والحقيبة الدبلوماسية القديمة، فكيف علم هذا الضيف الثقيل بوجوده ببيت والده في هاته اللحظة.

- رأيت من مكاني بالمقهى الخلفي خيط نور شمعتك فقدمت لأطلب أمانة لي عند الراحل!

- تطلب ماذا؟

- مليونان استعارهما مني منذ شهر لم يرجعهما، لست في حاجة مستعجلة لهما، ولكني فضلت أن أخبرك عسى أن تكون في حسبانك وتسددها لي عنه في قادم الأيام.

فكر لحظتها في أن يدفع بنفس قوي من فمه على رأس الشمعة، ثم يلقي بها في سلة الفضلات، بعد أن يعيد جذب الباب وتغليقه كي يظل ذلك الظلام محجوزا وإلى الابد في قبر والده الدنيوي، لكنه تحسس لحن مشي صاحبه فأبتهج لحضوره ولو متأخرا عن الموعد، كان يحمل حقيبته الدبلوماسية السوداء القديمة.

- أين نور البيت؟

- أخذه والدي معه إلى القبر!

- أتمنى!

تجهم وجهه في احتجاج صامت عن ذلك الرد السمج، وكأن المحامي الذي نبت لحمه الأبيض وطوله الفارع الصلب، مذ تخرج أول مرة من كلية الحقوق من راتب والده، وهو يوكله دوما للدفاع عنه ضد محاولة لجم صوته، ووقف مقالاته الصحفية، قد تنكر لذلك وصار يستكثر النور على والده في قبره.

- هل وجدت شيئا من تركته بالبيت؟

- أجل!

- أرينه

فأشهر فاتورة الكهرباء في وجهه بعد أن أخرجها من الجيب الخلفي سروال الجينز الأزرق الداكن الذي لم يغيره منذ شهرين كاملين!

- أظن أنه كان يحتفظ بأشياء مهمة في الصندوق الأخضر للمرحومة والدتك، هكذا رأيته يفعل كلما زرته هنا في المرات السابقة قبل أن يتوفاه الأجل.

كسرا معا قفل الصندوق فوجدا به أدوية عديدة منتهية الصلاحية، وسجل مليء بجداول لأسماء وأرقام نصفها مشطوب بالقلم الأخضر مكتوب تحتها عبارة "مسدد" والنصف مدون بالأسود مكتوب تحته بالأحمر عبارة "للتسديد" سلط على أرقامها ما تيسر من نور الثلث الأخير المتبقي من ذيل الشمعة، وحالما رفع برأسه صوب المحامي، وجده قد فتح حقيبته الدبلوماسية واستخرج منها مظروفا أصفرا سميكا نظر إليه ثم أمده به..

- إرثك عن والدك!

وقبل أن يهم بالانصراف، بعد أن وقع له على وثيقة استلام الوديعة، طلب منه أن يضيفه في جدول الحسابات المدون تحتها بالاحمر "للتسديد" تكلفة الوصية التي احتفظ له بها عن والده مذ دخل في غيبوبة من ثلاثة أسابيع، لكنه أستوقفه وطلب منه التريث ليفتحا سويا مظروف التركة لعلهما يجدان بها ما يمكن أن يسدد به مستحقاته ويكفيه عناء التدوين بسجل المديونية.

مزق الحاشية العليا للمظروف الذي به التركة فغرس يده بأحشائها، فاستخرج محفظة سوداء صغيرة الحجم تشبه حافظة النقود الجيبية، فتحها فوجدا بها جهاز لقياس ضغط الدم وآخر لقياس السكري!

 

بشير عمري

الجزائر

 

في نصوص اليوم