نصوص أدبية

وجوه (18): باب الفرقة الناجية

salim alhasani2تغير حاله بعد يوم الوشم الأعظم، صار يكتب القصاصات فتتحول الى فتاوى وأوامر، لا يتردد الاتباع في الأخذ بها، فيما يجلس المقرّبون يسخرون منها ومنهم، لقد أقبلت الدنيا ضاحكة في أحسن توقيت، وألتقط الفرصة على أحسن وجه. وكان من حسن حظه أن عقول الناس كانت في قلوبها، كما تهافت قادة البلاد على أمير البحار يخطبون ودّه، ويرجون رضاه، ويتوسلون قربه، وهو يرطن بهم بلسان الروم، فيحنون رؤوسهم طاعة ومحبة.

 ...

عقد أمير البحار العزم على إنشاء مجلس الحكماء، فكانت فتنة كبرى افتتن القادة بها، وكلٌ يريد دخوله، فجمع منهم خمسة وعشرين فرداً، جاء بهم بعمائمهم وبدلاتهم وسراويلهم، يجلسون من دون كلام، يسمعون وينفّذون، ويخرجون على الناس يلعنون الاحتلال وينادون بسيادة الوطن.

 

أراد (مارد القمقم) أن يخدم أمير البحار، فقدم مشورته أن يستعين باثنين، شيخ اليعاقيب وسيد المقتدين، فاستحسن الأمير الرأي، وأوفدوا اليهما وفداً، فطار الأول فرحاً، وطلب الثاني زعامة المجلس.

 ...

كان مجلس الحكماء في البقعة الخضراء، جاء بهم أمير البحار لداخل اسوارها، كان بعضهم طيباً، لكنهم لم يبقوا كذلك، لسبب غامض صاروا غلاظاً شداداً، قيل أن ريحاً مسمومة لفحتهم ذات مساء، فأحرقت طيبتهم.. وقيل بل هي روح شريرة تحوم في تلك المنطقة، تظهر بين فترة وأخرى، تنفخ في وجوه الطيبين زفيراً نتناً، فتقلب طباعهم، تنفذ في الأعماق فتغرز القسوة في القلوب، ثم يصابون بهوس البقاء.. ويذكر الناس قصصاً لأشخاص كانوا يعرفون بالطيبة والصلاح، لكن الروح الشريرة نفخت في وجوههم، فانقلبوا قساة عتاة.

وقال آخرون إن آلهة الغضب في رحلتها الى الشرق، توقفت في هذا المكان، وأرادت أن تصيّره معبداً، لكنها وجدت أن الكهنة يتكاسلون عن عبادتها، ويتوقون لأخذ مكانها فحرّقتهم بحطب الشمس ونثرت رمادهم على كل البقعة، فصار من يطؤها يعشق الخلود.

قال رجل أحنت الذكريات ظهره، وهو يشير بعصاه الى حفرة يملأها الرماد، إن تنيناً خرج من باطنها ساعة الكسوف، تنين ضخم برأسين، كان جائعاً، فتصارع الرأسان، حتى أكل أحدهما الآخر، وسقط الدم على هذه البقعة، فصار كل من يسكنها ويشم رائحتها، يصاب بجوع التنين.

وقال إن فيها عيناً مسحورة تصب ماءها في بركها وبحيراتها وجرفها، فمن يأكل من سمكها يلتاث عقله، وتفسد روحه، ويصاب بالهراش.

 ...

ثار سيد المقتدين غضباً حين بلغه من البقعة الخضراء خبر الإبعاد عن مجلس الحكماء، كيف لا يكون أحدهم، وقد نحت له الاتباع تمثالاً أكبر من تماثيلهم؟

 توّعدهم بأتباعه ويلاً وثبوراً، فهم يتقحمون الصعاب رغم جوعهم، لا يعرفون سوى تنفيذ أمره، لا يميزون بينه وبين والده، لا يدركون الفرق بين رضاه ورضا الله. فهل لكم طاقة عليهم؟

 جاءه الجواب بالرفض من البقعة الخضراء، خاب ظنه بدخول مجلس الحكماء، أقسم أن يُشعل حطبها ناراً، وأن ينادي في اتباعه يطوفون حوله سبعاً، ثم يتبركون بتمثاله، وبعدها يخرجون للقتال.

جياع بثياب رثة، يحاربون من أجل أن يحيا زعيماً عليهم، سيصنع منهم فرقة ناجية، سيكون الباب والبهاء والكتاب الأقدس والإيقان.. دورة من الزمن تتكرر في هذه الأرض، تبدأ هكذا، ثم تنتهي كما في القرون السابقة.. يصنعها أشخاص معدودون على أيدي الفقراء الجياع، يموتون ويعرى ابناؤهم، فيما يزداد الصنم علواً فوق الصدور.

 

سليم الحسني

 

في نصوص اليوم