نصوص أدبية

العتمة

abdulfatah almutalibiفي ما مضَى منَ الزمن لم يكنْ يُفكّر بركام العتمةِ، بالرغمِ من أن الليلَ طويلٌ بما يكفي والضوءَ شحّيحٌ، يَرى النجومَ لاصِفةً في كبدِ السماءِ فيتيقن أنّ لا أمل في طلوعِ قمرٍ يزيحُ ما تفشّى فيها من ظلام وفي اللحظةِ ذاتها يتذكرُ الأوقاتِ الجميلةَ التي كانت الدروبُ فيها تستحمّ  في شلالٍ من أضواء المصابيح، العين تميز ماتراه بسهولة قبلَ وهن أعمدة الشارع وإصابتها بالعمى المُطبقِ، فترةٌ وجيزةٌ تلك الحقبة المضيئة ثم ارتد الظلام يُعَسْعِسُ في الطرقاتِ، وهكذا تسلّلَ الخوفُ حتى استقرّ في الرؤوسِ، لمْ يعُدْ هناكَ منْ يَحفلُ بالضوءِ وكأنّ المخلوقاتِ ألِفَتْ ظلامها وساغتْ لها الحياةٌ وسط هذا الركام الداجي غير أن هناكَ من يُلقي بحبرهِ الداكنْ على النهارات أيضا عامداً لتلتحق بليلٍ يطولُ ويزداد دكنةَ كلما تقدم الزمن، وجدَ الناسُ أنّ ذلك نوعٌ من أنواع الحرب التي استوطنت هذه الأصقاع والتي كانت نائمةً واستيقظتِ الآن ناشرةً الريب في كل مكان وعندما ودّعَ أصدقاء المقهى كانت  الأفكارُ تتداعي برأسه وهو يسير في الطريق إلى المنزل الذي اندس بين قرينين من منازلَ واطئةٍ طأطأت رؤوسها دائما وتراجعت بمن فيها إلى هامش الحياة الملتاث بالرثاثةِ، يقضم خطوهُ قضمةً من الضوء كلما تقدم متجها إلى أطراف المدينة المستفزةِ حتى اختنقَ رويدا رويدا ثم خفت خفوتَ أنفاسِ رجلٍ مُحتَضَرٍوفي خطوةٍ أخرى لفظَ الضوءُ نفسَه الأخير مُسلّماً مواقعَهُ إلى كتائبِ الظلام، رنّتْ في رأسهِ أحاديث عن عودة أشباحٍ قاتلةٍ تنشق عنها الظلمةُ بلحظةٍ خاطفةٍ ولا تتورع عن القتل من أجل شيءٍ ما، ربما من أجل نقودك أولأن القاتلَ مريضٌ ساديّ أوأن أذرعاً خفية تنشر الرعبَ لغرضِ خبيث يتعلق بتعكير صفو المدينة، أبشعَ ما اختزنَهُ الرأس صورةَ الضحايا الغافلين المقتولين ببلطةٍ مثل بلطة الجزار، كان التلفاز يحرص على عرض التفاصيل، البلطةَ المدماة والجروح التي صنعتها تلك البلطة على أجساد الضحايا وكأن هناك من يريد حشرها في الرؤوس التي عشعشَت فيها حقبٌ من الخوف قبل ذلك، في نقطة محددة تصلح أن تكونَ مرتعاً لتلك الأشباح وفي غابةِ العتمة اختلطت عليه معالمُ شبحٍ راح يتقدمُ باتجاهه حتى أصبح بمدى رؤيته المتعثرةِ وقد غوّلَهُ ذلك الخوف الكامن في رأسه مستفزاً كل نأمةٍ فيه ورويدا رويدا تبينَ أنه يشتملُ بما يشبه رداءً أسودَ استنفرَ كل اهتزازاتِ أعصابهِ، ما زال الشبح يتجه نحوه عندما سقط آخرَ شعاعٍ من الضوءِ على عينيه الظاهرتين منْ عمق السواد ليتوقدا بلمع مريب ترجمهُ هلعُهُ شعوراً بالخطر،في تلك اللحظة تداعت إلى دماغه الذي تحركت فيه دودة التوجس كلُّ الأخبار التي سمعها للتوفي المدينة عن أحداث هذه الأيام وعن (أبو طبر)*، لم يعد مسيطرا على رأسه الذي راح بين الفينة والفينة يتلفت يمينا وشمالا وإلى جهة الشبح الذي تجاوزه، فكرَ أنه يجب أن يحسب أسوأ الإحتمالات فهوإن تقدم نحو أعماق العتمة، إلى تلك الفجوةُ الفارغة بين صفين من البيوت التي تدثرت بسكونها والتي تصلح أن تكون منطقة أحداث مبهمة سيسبق السيف العذل وربما فكّر الشبحُ بطريقة ما حول الموضوع الذي يشغله، فقد بدا مُنهَمّاً بما يجده أيضا فها هويتلفت بحذر يضارع حذرَهُ، ربما يريد أن يُمهلَهُ حتى يصل إلى تلك الفجوة حيث تتناسل العتمةُ والسكون ليندلق جنين الرعب من رحم المكان فلا يسمعه أحدٌ عند الإستغاثة، في هذه اللحظة قرر العودة من حيث أتى وبدا أن الشبح قرر تنفيذ ما ركز ببالهِ أيضاً وهكذا راحا يحثّان خطوهما باتجاه بعضهما من جديد وكل واحدٍ يُريد أن يتراجع إلى المكان الذي أتى منه وهو يتمسك بحبال الحذر الممتدة إلى المجهول، هذا الوضع الجديد أطلقَ الخوفَ في داخله من عقالهِ فتقلصت عضلات جسمه متوترةً بفعل ما استجد،إقتربا من بعضهما حتى كادا يتلامسان ولشدة ِ توترهِ بدرت منه حركةٌ مفاجئةٌ، صرخ الشبح بوجهه مشتبكاً معه ولمح في قبضته سكينا مثل سكاكين المطابخ المصنوعة محليا، قبض على يده المسلحة بالسكين وراح يذودُ ويصرخ طالبا النجدة، كان الشبح أيضا يستغيث وقد وقعت عنه العباءة السوداء، اختلطَ صراخهما فكان خليطا من عواء وهمهمات،لم تمهله السكين في التفكير بماهية المهاجم، كان همّه يتركز على طرفها المدبب، تجمع الناس حولهما وشاهدوا بأم أعينهم كيف كانت المرأة البدينة تقبض على سلاحها وتوجهه إلى صدره ورأوا أيضا كيف كان يذودها.

فك الناس الإشتباك وحملتهما سيارة الشرطة،  استمرتِ المرأةُ البدينة بولولتها وهي توضح مبرراتها التي اختصرتها بخوفها منه وتوجسها وفي مقر الشرطة شرحت للمأمور كل ما اعتمل بنفسها وبدا الرجل مقتنعا بأقوالها وكأنها تنطقُ بلسانه في تلك اللحظات العصيبة فقد كانت هواجسهما متشابهةً مدفوعيْن بغيمة الرعب والترقب التي تطبق على المدينة منذ عرف  الناس أن هناك مهووسا يقتل الناس في كل مكان بيدَ أنّ المأمور قال مخاطبا المرأةَ: الناس شهدوا أنك كنتِ تقبضين على السكين وتوجهينها إلى صدره ثم أنك اعترفتِ أن السكين تعودُ لك  وبهذا فالأمر واضح وبادره:

-أتريد أن تتقدم بشكوى ضدها؟

كانت المرأة البدينة تواصلُ عويلها قال:

-لا أيها المأمور  لقد حصل لبس  والظلام كان السبب .. كيف لنا أن نتبين الحقيقة عندما يبتلع الغرب شمس النهار مُتَجشئاً كل هذه العتمة،  الظلامُ ياسيدي هوالسبب ثم التفت إلى المرأة وقال:

- سامحيني يا سيدتي فقد كنت خائفا  كما أنت، كلنا خائفون وأنا أتنازل عن كل ما يتعلق بي وإذا سمحت لي سأوصلك إلى وجهتك، تهلل وجه المرأة البدينة ثم خرجا من غرفة المأمور إلى الشارع الذي بدا مظلما لكن ثمة بصيص ضوء يشتعل في قلبيهما لما آلت إليه الأمور.

 

قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

....................

*- صاحب البلطةِ

 

 

 

في نصوص اليوم