نصوص أدبية

فـلاش بــاك

 لم يكن يدرك فحوى الأمر عندما داهمته فكرةُ تجسيد حاول كثيراً جعله من عِداد اللا ضرورة لوصفه / اللا قبول لعرضه .. قالت له: سيجعلك البعدُ عن الديار تكره تفاصيل الحاضر، وسيدفعك إلى العدْوِ كالمعتوه خلف سرابات الذكرى التي ستتفاقم رويداً، رويداً فتخسر بذلك تجارة الحاضر ورصيد الماضي، وسترى إلى مستقبل تتراغى ضبابيته تماماً كما هو كل فرد من أقرانك أو أندادك آثر الضياع وصولاً إلى القطب المميت. (تناثر جسدُ الغيمة وتفككَّت الأعضاء . تشكّلت جرّاءها أبعادٌ هلامية لا تمت لفحوى الأصل ... رأى قرناً يحاور ذيلاً، ولبوة تفقد بطناً فيستحيل خطماً لخنزير ... رأى جذع شجرة يتهاوى بآلية بليدة، ورموشاً بشرية تسيل كالدمع الضنين .) بحثَ عن قلمٍ دسّهُ في جيب بنطاله ليجعله سهماً يفتك بجسد أية فكرة ستداهمه . (إنّه يتوقَّع هجوم الأفكار الدائم، ويتحسّب للغواية المنبثقة كإصبع سحري من سيح رملي) .

قالت له : سأكتبك قصّة أو أدوّنك قصيدة .. سأرسمُك معبداً مهما أبديت التنبؤ وتوقعتَ الذي سيحدث أو اللا يحدث .. سأنحتك على قراطيس الذاكرة،،، وسأطبعك على جباه الفجر . لا بدَّ أن أخلِّدك، قالت،،، عندما تشوِّشت إزاءه شذرية السماء ؛ وطفقت أشرعة الريح تبعثر حيويتها تمزيقاً لصفاء الفضاء الفسيح ... تذكِّر خريفيات بلدانٍ شمالية جابها زمناً مقارنةً بوجوده الماثل في واحة هي نقطة خضراء في مدٍّ رملي مفازاتي بلا حدود ... تذكَّر أنسامَ بليلة كانت تحمل أرائج لحاءات الشجر العملاق، وقوامات الأغصان المتعانقة للغابات الناهضة توالياً ... عادت إليه صورة الأوراق الزاحفة بتحريكٍ حفيف على الخمائل الخضر؛ عارضةً صفرة ذهبية كنبوءةٍ لا تقبل التردد بفصلٍ سيأتي ... تذكّر ساعات الحالمين وأنظار السائرين على أديم الرومانس ، هنالك في جلساته المتكررة على المصاطب الوفيرة، متابعاً حركة الناس الرافلين بحبورٍ جنائني أو راحلاً يترجم فحوى المقارنة بين واقعٍ وآخر ... تذكّر "بوشكين" ومعشوقته " ناتاليا كونتشاروفا " التي غدت زوجةً قادته تحت تأثير حسد الآخرين إلى فم الموت ... تمتم أشعاراً من " كيتس "الحالم، الرافض لجيوش "فايروسات السل"  تفتك برئتيه الغضّتين  . وحين مرَّ على "ديستوفسكي" تكدّر .. كان وإيّاه يتقاسمان "الصرع" ؛ يهبطان وادي الآلام ويشربان من منهل الوعي المرير ... تذكّر " ايكوفسكي" وقراره في وضع حدٍّ لتجني وإيقاف خيول الاحترافات الصاهلة في ميدان روحه المُعذَّب، فانتفضت في رأسه فكرة سوداوية تقرِّبُهُ إلى اعتقاد أنّه مُنتحر في هذه الواحة وإنْ بدا متعافياً،،، ميّتاً وإن أظهر نكراناً للهزيمة .

آثر النهوض، تاركاً مساحةً سطحية لتلٍّ اعتاد اعتباره منبراً لتفريغ الهموم، ورمياً للحظات الشقاء . نهض مشفوعاً بهمسٍ يتعقَّبه .. عرفه : صوتها يمارس المناجاة، ويلاحقه بهراوات التحذير مستلَّة من طوايا الحِكَم .. لم يلتفت ؛؛ فضولُها استحال ظلاًّ يلتصق به .، وقلمه صار يخلق وعوداً تشي بالاحتفاظ / تسعى للتحقيق . يدري أنَّ النهار يطول . والأطول دهاءً لسان الليل يخاصمه بالقلق، ويأتي إليه بعربات الهموم، وكوابيس، والتطيّر .

في غرفته المسكونة بالصمت فوجىء بها تجلس عند منضدته ... وتكتب:

"من مكاني النائي؛؛؛ من ساعات تفكّري أنتقي كلماتك فأعزو حزني لتهالكات كبريائك ؛ ذلك الكبرياء المتخفّي بين ثنايا رداء التكلّف .....هل وصلتكَ تحايا الثبات ؟! ... ألم تستعن بجَلَد المسحوقين بالآراء الكبيرة ؛ الناشدين رياض الشمس سنرفل على ثراها أنا وأنت معاً؛ ألم ؟! .." .

عندما مدَّت أصابعَ أنحلها الارتعاش كي تتحسس وجهها غزته غرابة الموقف / باغتته الورقة الزرقاء تضمُّ أسطرَ، ولم تكن _ هي _ هناك ... كانَ الكرسي فارغاً ؛ فقط استقرّت عيناه على طابع يحتل زاويةً من مظروف دوِّن في وسطه اسمُ بلده البعيد، وصدى أنفاسٍ هي من بقايا ألقٍ سحيق ....

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1269 الاحد 27/12/2009)

 

 

في نصوص اليوم