نصوص أدبية

فاعل خير

mohamad mohamadalsonbatiاستلم المهندس حديث التخرج عبد الغفور موافي خطاب التعيين في إحد مواقع شركات البترول البعيدة، وكزَّ والده على أسنانه وهو يدمدم: "لكنك ستبتعد عنا يا عبد الغفور؟"

طمأنه وأغراه أن الراتب هناك سيكون مجزيًا جدًّا، سيكوِّن نفسه ويتزوج دون أن يكلف الوالد شيئًا، لكن الأب لم يقتنع تمامًا. راح يجادله: "خمسة أعوام وأنت في كلية الهندسة لا تقف معي على الفرش إلا في الصيفيات، وتأخذ الشهادة فتتعين في آخر الدنيا وتبتعد عنا؟!" ويضرب كفًّا بكف، "كنتُ أريد لك وظيفة قريبًا من هنا، تنتهي من عملك وتعود لبيتك تأكل لقمتك وتلحق بي فتساعدني في العصاري".

لا يصدق عبد الغفور ما يسمعه من أبيه. الكارو ذات اليدين يدفعها الأب إلى السوق ثقيلة كلَّ صباح ويعود بها بعد الغروب وقد خفَّ حملها، وطوال النهار يبيع البصل أو الجزر أو الكرنب أو الطماطم. الناس يحبونه ويقبلون على بضاعته وأحيانًا يدخلون معه في قافية.

الوقوف الطويل يجهده، وما تكاد إجازات الصيف تبدأ حتى يجبر ابنه عبد الغفور على العمل معه ساعات طويلة. يلف الأبُ رأسه بشال كشال العمامة يلقي ذؤابته خلف ظهره ويظل ينادي ممتدحًا ما معه من بضاعة. لا يكف عن النداء حتى وهو يضع الخضار أو الفاكهة على كفة الميزان. لا يتوقف لسانه عن الضجيج. وعندما يضايق الحذاءُ قدميه يخلعه ويقف على فردتيه فتشم الأصابعُ التي أنهكها الحبسُ هواء السوق. وبعد أن ابتاعت منه الست شوقية خيارًا وطماطم أعطته ورقة من فئة الخمسين جنيهًا فهزَّ رأسه نافيًا أن يكون معه فكة: "ابحثي في جيبك عن أربعين قرشًا يا ست شوقية!"

لكنها أخذت الجعبتين وتحركت تاركة الخمسين جنيهًا على العربة بجانب الميزان وصاحت به لافتة انتباهه: "خذ بالك منها كي لا يُطيرها الهواء!"

- انتي يا ست رايحة على فين؟

انطلق وراءها بعد أن دسَّ قدميه في الحذاء، تاركا امرأةً بدينةً تُدعى رتيبة تنتقي ما تشاء من طماطم. لا يعجبها العجب رتيبة هذه. بل وتقوم بنفسها بعملية الوزن بينما يرمقها هو من بعيد. يعيد للست شوقية الخمسين جنيها وهو يتعجب من مقاومتها غير المفهومة. تهمس المرأة في أذنه أخيرًا : "هي لك!، ويبقى لك عندي ثمن الطماطم!".

لا يفهم شيئا .

- صلِّ على النبي يا عم موافي، يا رجل يا طيب، يا أمير يا محترم، ابني صلاح، اسم الله على مقامك، حاصل على دبلوم تجارة متوسطة منذ عام كامل ولم يستلم وظيفة حتى الآن. لعلك فهمت مقصدي!

- بالعكس لم أفهم شيئًا!

- يا ريت المحروس ابنك الباشمهندس عبد الغفور يتكرم ويعينه في شركة البترول اللي بيشتغل فيها.

- ابني يعمل بعيدًا جدًّا، في آخر بر مصر!

- أحلى حاجة!

- يعمل في الشركة مهندسًا وليس كبير مديرين.

- سيتوسط لابني والخمسون جنيهًا حلال عليك.

أرجعَ لها فلوسها مرددًا: "حد الله بيني وبين الحرام". ثم وعدها، "عندما يحضر بسلامته في أول إجازة سأحدثه في شأن ابنك. هذا وعد. الناس لبعضها يا ست شوق!".

وبينما كانا كأنما يتعاركان، هي تحاول إعطاءه وهو يرفض، أطلت عليهما الست رتيبة التي تركاها تنتقي ما تشاء وتزن ما اشترت. راحت تمتدح أخلاق عم موافي سيد الرجال واستحلفته بالله أن يتوسط ابنه لابن صديقتها شوقية، والمرة القادمة لابنها هي: "وخذ ما تشاء من جنيه لخمسين!"

لكن الرجل أقسم ألا يأخذ مليمًا واحدًا ووعد أولاهما بالتحدث في شأن ابنها وبعد أن يتم المراد سيتحدث في شأن ابن الأخرى وطلب منهما الدعاء له بالستر.

 **

لم يكد يمر وقت حتى تم المراد.

وعندما كان ابنها صلاح يستلم عمله في شركة البترول سأله مدير شئون العاملين عمن توسط له فقال: "الباشمهندس عبد الغفور موافي"، ولم يكن ذلك الشخص على وفاق مع المهندس.

- هذا الذي يرفع مناخيره في السماء متكبرًا على الجميع ولا يساير أموره. ستكون مسرورًا معي أنا يا أستاذ صلاح. سأحل هنا محل والدك. اطمئن لي تمامًا.

انشرح وجه الشاب فتشجع الرجل وسأله: "قل لي بصراحة: كم دفعتم له؟"

- لا شيء، والدتي عرضت على أبيه خمسين جنيهًا لكن الرجل رفض بإصرار.

- ربما يكونون أغنياء

- بالعكس. لا أملاك ولا ثروات

- جيرانكم هم؟

- لا، ولكن والدتي تشتري من أبيه الطماطم والبصل

- يمتلك سوبرماركت؟

- يبيع على عربة كارو يدفعها أمامه بيديه إلى السوق. رجل مكافح.

- بصل، كرنب، كارو، والد الباشمهندس...

وراح يقهقه كأنما جُنَّ جنونُه ويضرب كفا بكف والشاب يجاريه مطمئنًا إليه مسرورًا بالتعرف به. "كارو؟ أليس عندهم حمار؟".

يضحك الشاب بينما مدير شئون العاملين يضرب الأرض بقدميه غير مصدق.

وألقمه صلاح هذا السر: "الباشمهندس عبد الغفور واسم الشهرة بطاطا!!" فيدق الرجل بقبضته على زجاج المكتب قائلا: "هذه تساوي ألف جنيه! ستكون ابني هنا في العمل. أي والله، ابني بحق!!"

 **

انتظرت الست رتيبة قدوم المهندس عبد الغفور في إجازة ليحدثه أبوه في شأن ابنها فيتوظف مثل المحروس صلاح. وعندما جاءها من يخبرها أنه لمح الباشمهندس ينزل من القطار ابتهجت وذهبت في اليوم التالي إلى السوق لتُذَكِّر والده بما وعد فإذا به مقلوب السحنة، مكفهر الملامح، تحدثه فلا يرد.

- عم موافي؟ هل نسيت وعدك لي؟

يبرطم بكلام غير مفهوم يأمرها أن تتركه في حاله وتذهب بعيدًا عنه الآن. لكنها لم تذهب. انفجرَ فيها: "ابتعدي! ملعون أبو النسوان! كلهم، وبلدنا كلها. امشي انجرِّي من قدامي يا مرة وإلا ضربتك بالعصا على مؤخرتك أنت وشوقية وابنها الكلب!. بطاطا؟ ابني أنا اسمه بطاطا؟! بلد تخاف ما تختشيش!" 

 

قصة: محمد محمد السنباطي

 

في نصوص اليوم