نصوص أدبية

حزام البخت

dikra laybieما لجدوى من التذكر.

الحبُ، الحزنُ، هل يمحوان ذكرى الموت؟

ربما...

يوقظ فيّ الضياء الأول، كما كان إنبلاج فجرغريب، أي شغف أحس، وأي دغدغة دفء وبأية علامة ارسم مسرتي، أوحزني وسط جلجلة الذكر وضرام التذكر؟

الموت..أيها المرافق القسري، هل تصادقنا، هل نصادقك على سعة معاشرتك لنا واختطاف المحبين؟

النداء المبهم مثل أغنية منسية، يأتي ويروح، كنت استشعره يأتيني من عمق مليون سنة حضارية:

- فكي قيدي، تحرري مني إلي..

أي مهيمن جميل، يدعوني إلى حرية بقيد من حنان، وأرتضي وأنا الممنونة؟

أتذكر العناء الأول، أو الصفاء الأول، أو الغناء الأول، في أمس المكان كنت أغفو على سفح صدره، حنوه يجردني من شرنقة كآبة مستديمة، ومن عتمة تشبه قبر الأيام، ليخرج بي إلى مسرة حانية يتلمس وجعي، يداعب ندى روحي، ويفرد على قلبي غيمة ماطرة، استظل بالماء، نقية وأهمهم، كأني ولدت نجمة مشعة في مسار عتمة حندس، إنه يعيد لي خصب تموز، كأني عشتاره، خرجنا تواً من عالم العتمات، إلى فضاء ساحر، طوقني يمامة مرتعشة، ومسد أجنحة شغفي، جعلني أحلق حتى تعانق صوتي وسمو رفعته، فصدح جسدي كأني سيمفونية خالدة، آه من وله لا يتبدى إلا بعد حريق، وفرحة صعبة لاتثمر قداحها في المواسم، أتراني في ذلك المكان الغيمة؟ أم يترآى ذلك لي مثل مرأى طيف؟

أعود كمن يمسك بجناحين اقترفا التحليق بعد حبس، تحولتُ أجنحة ً لاترى، دهشة تعانق القوس الأخير من حدبة الكون الفسيح، ياه... كوكب دري أنا في سموات عجيبة، الآن.. أقف قبالة صحوي، قبالة المرآة، تحديداً، أتفحص حقيقة رؤاي، أحاكيها وأتأملها، مع صورة نفسي أتساءل:

- هل أنا، أنا التي أمامي؟

أين ذهبت تلك الأنا، عدت لا أرى إلى أناي الحاضرة بخضرة شغاف وطيف رؤى حالمة، لكن خائفة من مغبة الخروج من المرآة فتتداعى مخيلتي، ويهوى كياني كإمرأة من فخار عتيق، أخاف أتكسر كزجاج نافذة عريضة تحت وطأة عصف المتفجرات المفخخة أو قصف القنابل الطائشة أو الرصاص الأرعن في يوميات الحرب ذات الظل الكابي والنزق المجنون وجرح أيامها الذي لن يندمل بيسر.

 - عن أية حرب تكلمين نفسك وتهجسين أيتها المجنونة؟ الأجدى بك أن تصالحي خلاياك، أن تعلني السلام بداخلك، أن تكون لك ابتسامتك الداخلية.

ولكن هيهات، من أين يجيء الفرح إن لم يكن مغمسا بالحب؟

- أبي! أي أبي.. أنت ذلك القابع البعيد بين عتمة الخوف وضياء الرغبة والشوق، أخرج أرجوك من تحت جلدي كي أرى عينيك، أنظر بعيني، فأنا جد متوحدة، والمرآة لاتفيض إلا بدمعي، أنا أمرأة دماعة برغم جلادة مظهري، أين حزامك، أين حزامك؟

بحثت في أرجاء الغرفة، عن الحزام لكن المرآة مدت لسانها لي وأشارت (الأنا) التي داخل زجاجها لي وللحزام بقبضة يمناي وهي تبتسم برثاء حنون!

تفحصته، لونه البني لم يتغير كثيرا، لازال مثل حناء شعري، مع آثار سود كأنها شيخوخة مضادة، نظرت إلى شعري، آثار عمري بدت بتلك الخطوط البيض المدفونة بعناية تحت ليل مصبوغ بالحناء، ياللمفارقة بين آثار عمرين، بين أسود الحزام وفضة شعري.. ابتسمت، ياله من زمن أخرق!

الحزام يدوم والبشر يفنون!

هل سمعتم بحزام يموت؟ نحن نسمع ونشاهد عشرات البشر يسقطون بموت مجاني عابث كل ساعة على بقاع الأرض، أما هناك في حنايا وطني فالموت العبثي صنو جرم الإرهاب وشكل خطابه الأهوج الدامي!

تأملت هذا الإرث الغرائبي: الحزام.

لففته حول خصري، تهدل، بدا أطول من السنة السالفة، هل تمدد جلده؟ تساءلت، أم تقلص خصري؟

وثانية ضحكت عليّ امرأة المرآة:

 - هل تتوقعين أن تسمني في زمن القحط؟

ثقوب الحزام تطلعت بعيون وسيعة تخيلتها عيون أميرة سومرية، نظرت إلى حاجبي دون إرادة مني، تحول وجهي إلى ما يشبه قناع فتاة أوروك، يالدهشتي ومسرتي، كأني عشتار الأسطورة، هززت رأسي، هزت فتاة المرآة رأسها بالإتجاه المعاكس، عدت أتأمل الحزام، وقد حللت خصري من طوقه، بات طويلاً كعمر مجعد!

آه.. لم تعد تحمي ظهري، إن لم تكن إنسيا، أنا بحاجة إلى حزام ظهر من نمط واقعي، تعبت من المجاز والكنايات التي لا طائل وراءها.

نهرت بأفكاري وألقيت الحزام أرضا، وركضت إلى حديقة الدارعلي أتنفس هواء نقيا، لقد آذتني اختناقات أفكاري، لكني وجدت الهواء ملوثا بدخان الأيام والأحوال، ركضت صوب حلمي، بحثت عن جنة الخيال علي أجد زهرة بكراً تغتسل بحياء تحت نثيث مطر وهمي أو ندى، قد أجد سماء أعرض من كوننا الصاخب، صفاء مثل شطنا القديم، لكنه الخريف، يغمرنا كما يتلبس الأرض والشجر.. كأن أجنة الحياة تجمدت داخل الأرحام تخشى صرخة الولادة..

هل يمكن لحزام أبي أن يحيي ذلك الموت الداكن في النفوس والأشياء؟

اتكأت على جذع برحية طالما نشأتُ معها أحاورها وأسرب لها آهاتي وأفراحي، نظرت إلى سعفها المتهدل لازال حانيا، شعرت يدا بيضاء تخرج من هامة النخلة كأنها طلع نضيد، تشع وتتسع لحلمي تحتويني كما كنا نفعل من قبل، إنها لعبتنا سرّنا المشترك الجميل، وإذا بقامتي الصبيانية تتمادى فارغة بموازاة شقيقة أفكاري النخلة وبمثل قيافتها صرت، مكللة بالأبيض الناصع كأني عروس أزف إلى قمري المجنون.. مثل نهر بلا ضفاف اتسعت أمامي الرؤية، أبي صار النهر والشجر والضياء والأشرعة والنوارس وقصائد الليل، أية خرافة هذه، أو أي حلم؟

نهر من دموعي الساكبات جرى بلا قرار، بحثت عن مصب أو نبع بين محجري فلم أجد، إذاً من أين يتأتى لهذا الفيض أن يغمر المشهد؟

بين الفنتازيا والمجاز والفضول، حاولت أن أرى إلى حقيقتي.. تسربت مثل ماء بين أصابع ذهني المشتت، لم أمسك بقطرة، ولو بقطرة ندى من نفسي، ذبت مع الأرض العطشى، وتماهيت مع الحديقة كأنها جنة وهم..

أينك يا حزام؟

مددت يدي إلى فضاء مفتوح، أين النهر الذي يطعمنا من جوع، البيت الذي يأوينا من خوف ومسغبة، أينك والدي؟

كانت أمي توصي بناتها، ووجها يتورد بثقة آسرة:

 - حين تجعن أو تخفن أو تتوجعن، أو تتعسر ولا داتكن، استنجدن بحزام أبيكن، إنه حزام البخت.

 - البخت!؟

بلاد سعيدة بشعب تعيس، وبحجم ثراء أرضها وكنوزها تتسع مجاعة الناس وأطماع اللصوص، سرقوا الأجنة والعِرض، وزهو الخضرة العميقة، صار كوننا رمادياً، أهي دورة الأزمنة، ننكسر وننهب ونغزى، ثم نصحو ونعمر ونتجاوز، إنه المستحيل الواقعي كما سماه ذلك الجميل المنفي، الآن نسبى ونحن أحياء ونجوع ونحن أثرياء، أي ( بخت ) نستند إليه وأي حزام سحري؟

أمي تجهل إننا محصنات ضد الرفاه الصعب، وأمراض الكوارث، وإننا لم نلد في زمن العقم، أبي فقط يعرف سرنا، وسر العقم، والحزام ليس سوى... سوى...

وصحوت!!

المرآة خالية من أنا الصورة، مددت أناملي أبحث في سطحها الصقيل، فلم أجدني، بكيت، بكيت على تلك الأنا الغائبة، وعدت أنظر صوب بياض الجدارعله يسعفني، وجدته يحاصرني، دفعت به اقترب مني كأنني وسط معصرة، يارب الضعفاء، أين أنا؟

باغتني صوت يرن بحنين دافىء:

- هل اكتشفت الطريق؟

-.......

 - هل الطريق إلى قيد الاختيار، يعادل اختيار القيد؟

- كلا.. أبي، كلا.. ورحمة روحك..

 - الطريق حقيقتنا، هل استرشدت به إلى حقيقتك؟

 - لا، أنا التي قيدت الطريق، ونحيت به إلى المغلق، حين نأيت بنفسي عن نفسي.

 - ها.. أنت تتذاكين على مناكدتك، حسنا هل ترين إلى صورتي؟ انظري إلى الجدار وأنت مغمضة العينين.

أغمضت عيني، فتقدمت هيبة أبي: قامة بقيافة الحب، وغترة مرقطة وعقال أسود ملكي وعباءة (جاسبي) معطرة بالمسك والصنوبر، مد يده نحو قلبي، صوته يرن مثل غناء جنوبي، مثل نايل:

 - فكي قيدكِ وتحرري مني إلي، دعي حزامي وابحثي عن حزام روحكِ. فتحت مقلتي، هدبي مبللة، وقلبي مغموس ببكاء مُرٍ سعيد!

 

ذكرى لعيبي

 

في نصوص اليوم