نصوص أدبية

الملوية

mohamad alsonbati كنت أعمل في العراق، ويوم حجزنا تذاكر العودة إلى مصر وعرفنا أن أمامنا أسبوعًا على المغادرة قال زملائي: سنزور النجف، قلت لنفسي سأزور سامراء. لماذا خالفتهم واخترت سامراء؟ هل لأن مئذنتها الملوية كانت في رأسي؟ سأعلم لاحقًا وستعلمون.

بعد رحلة طويلة وصلتُ. صعدتُ المئذنة متأملا الحنايا المستطيلة المجوفة. لمحت نهر دجلة راقدًا ككلب أبيض جميل يتشمس باسترخاء. وكلما تقدمت في خطواتي الصاعدة ولجتُ أكثرَ في العصر العباسي واحتضنت التاريخ بشوق. لكني عدتُ فجأة من الماضي وشهقت: - صديقي أسعد!

منذ عامين لم أره وهو هنا في سامراء مقيم!

أكملت رحلتي الصاعدة دائرًا حول الملوية حتى شارفتُ منتهاها قبل أن آخذ قسطا من الراحة ولا أكاد أترك وجه صديقي وأتعرف على دهشته عندما سيراني فجأة أمامه.

- مادام أمامك متسع من الوقت ستظل معي يومين أو ثلاثة نستعيد الماضي.

حاولت التملص منه لكنه صمم على استضافتي. قدَّمَ لي ثوبًا نظيفًا مكوِيًّا ومنشفة وقال استحمَّ وخُذ راحتك على الآخر.

هل جئت إلى هنا من أجل الملوية فقط؟ هل خطر صديقي أسعد ببالي لحظة فجذبني من بغداد؟

ولَدَى خروجي من الحمام منتعشًا بالتخلص من متاعب السفر لمحت شابًّا مصريَّا يدخل مندفعًا يلهث وعلى وجهه وحركاته فرحةٌ لا تتناسب مع فِراره من شيء لا أعرفه. قال لأسعد بعد أن ارتمى على أقرب مقعد:

- لولا ستر الله لحدث لي ما حدث لصديقنا شنديدي!

لم ينطق أسعد ولم أنطق أنا وإن كان الاسم الغريب قد لصق بذهني كوشمٍ عميق.

والآن أؤكد لنفسي ولكم أن كلمة "شنديدي" كانت سبب ذهابي إلى سامراء! وستعلمون كيف!

**

رجعتُ إلى عملي بالمستشفى العام بمدينتنا الصغيرة.

ذات يوم وقفَتْ أمامي امرأةٌ لم تبلغ الثلاثين بعد. زَرَعَتْ نظراتِها بقطعة الأرض التي بين قدميَّ، ولاكت الصمتَ لحظاتٍ قبل أن تسألني:

- انت كنت في العراق يا خويا؟

أبعدتُ عيني عن شفتها المرتعشة وسمعتُ:

- بيقولوا النسوان هناك ما لهم حل، والرجال أكلتهم الحروب. زوجي هناك من زمن، يخبرني الفأرُ الذي يلعب في عِبِّي أنه لافَ بامرأة عراقية جعلته ينسى أهله.

أرتني تذكرة العلاج التي قطعَتها وقالت: أنا مش عيانة. أنا قطعت التذكرة لأراكَ وأستفهم منك!

- اسألي حماتك عن ابنها

- سألتُها ألف مرة، وفي كل مرة تقول: سيحضِر قريبًا.

طمأنتُها: ما دامت حماتُك غير قلقة فلا تقلقي أنتِ

- ربما هي غير قلقة لأنها تعرف أن ابنها مع امرأة غيري وهي تريد أن تكيدني!

- أين يعمل زوجك هناك؟

- في مكان يدعى السمرة

- ربما تقصدين سامراء؟

- بل السمرة

- ما اسم زوجك؟

- شنديدي!

سرَتْ قشعريرة في بدني متلاحقة الموجات، واضطربت اضطراب المصري الذي كان يقول قبل أن يرتمي على أقرب مقعد:

- لولا ستر الله لحدث لي ما حدث لصديقنا شنديدي!

كانت نظراتها الحائرة تنسكبُ في قطعةِ الأرض الصغيرة التي بين قدمي، أو على حذائي ووجدتني أراجع اضطراب شفتها السفلى، وأقول:

- اسمعيني كويس. من شبه المؤكد أن زوجك في سامراء، لي صديق يعمل في أحد الفنادق هناك، طيب ومحترم، سأبعث إليه برسالة أستفهم عن شنديدي. بعد أسبوعين سيكون الرد قد جاءني.

- كيف ستخبرني؟ ربما لا يسمح لي الأهلُ بالحضور إلى هنا من جديد. هل تنزل إلى الاسكندرية؟

- كل يوم جمعة

- يا فرج الله، وأنا كل يوم جمعة أكون هناك أبيع الجبن القريش والبيض والسمن مع إحدى جاراتنا، هناك في محطة مصر على شريط الترام.

وقلت لنفسي وأنا أراقب حيرتها المرتبكة: ما الذي جعلني أختار سامراء دون كل زملائي؟!

**

وأخيرا جاءني الرد:

"كان يعمل في العراق، وطمع في أن يبيع الجوارب والملابس الداخلية، والمناديل الورقية، ومزيلات العرق.... في الباحة الفسيحة أمام البنك. عندما يلمح عربة الشرطة يجمع حاجياته في ملاءة ويطلق ساقيه للريح. يبدو أن الشرطة استاءت منه ومن غيره لجرأتهم التي تكدر صفو المكان فواجه عبد الفتاح الشنديدي تهمة تكدير أمن البنك، وحكم عليه بسنتين، قضى منها ما قضى وبقي عليه ثمانية أشهر سيغادر بعدها السجن، ونحن العمال المصريين في سامراء نجمع له من أنفسنا مبلغًا من المال كل شهر ليواجه به الحياة بعد أن يتم مدة حبسه ويخرج مكسورًا إلى الحرية".

 

 ذهبت يوم الجمعة إلى الاسكندرية ونزلت في محطة مصر. مشيت على شريط الترام في محطة مصر أتصفح وجوه بائعات الجبن القريش والسمن فلمحتها. هي لم ترني. منشغلة كانت في مساومة مع الزبائن. ماذا سأقول لها؟ زوجك في السجن؟

انسحبت من الزحام ودعوت الله أن ترجع رابحة في بيعها.

تكرر المشهد أيضا في الأسبوع التالي.

ثم بعد ما يقارب العشرة أيام وجدتها قدامي وبيدها التذكرة.

- كيف حالك يا أستاذ؟ أنا لست مريضة ولكني.....

حكيتُ لها ما جاءني في رسالة صديقي. يبدو أنها لم تصدق. سألتني أن أعطيها الرسالة فاعتذرت. طمأنتها: أليس اسم زوجك عبد الفتاح؟ من الذي أخبرني؟....

بعد تفكير سمعتها تتمتم: ثمانية أشهر؟ سأنتظره. هو زوجي ومن حقه عليَّ أن أنتظره.

ومسحت عينها بطرف كمها وأكدت لي: سأنتظره يا أستاذ محمود.

أعطتني ظهرها. مزقت التذكرة وأطلقت مزقها في الهواء بحركة شبه استعراضية.

 

محمد محمد السنباطي

 

في نصوص اليوم