نصوص أدبية

كلنا يفنى والعربة تحث السير

sardar mohamadالجزء السادس والأخير

من رواية "عربة عشتار"

 


 

كلنا يفنى والعربة تحث السير / سردار محمد سعيد

 

15

عرسٌ ولا أجمل ولا أغرب كان ضيوفه والمدعوون إليه الحيوانات ليس إلا

وهل أرق منهم وأوفى يفرحون على سجيتهم ويحزنون على سجيتهمم دون تكلّف اخترعه البشر.

صوت حوافر وسنابك وخفق أجنحة وخشخشة زحف.

حضروا جميعاً

 نمور، ظباء،بقر، أرانب، يرابيع، حمام، تحت قيادة الأسد.

وبعد التهليل والتغريد والتهنئة الصادقة تقدمت اللبوة حملتني وتقدم الأسدفحمل راحيل، ومن عجب أن هذا الذي تخافه الحيوانات كلها يخشى أنثاه

يصعر خده مفتخراً بلبدته ولمجرد تثاؤبه ترى الحيوانات تفرقت شذر مذر

ولكنه يغطي وجهه ويرتعد ويغدو أرنباً بحضور اللبوة،السيدة الأولى

أركبونا العربة وسط الفرحة المرتسمة على الوجوه.

لمح الأسد طيراً رأسه رأس سبع مبلل كأنه خرج من البحر ووجهه ممتقع فاقترب منه مستفسراً.

زأر فارتعدت الحيوانات

إنطلق وانطلقت خلفه.

سألت الهدهد عن الأمر

فأخبرني بخبر زحف جيش الأحباش لهدم الكعبة

فاظلمت الدنيا بعيني وتبعناهم على ظهر العربة أنا و راحيل والهدهد

قال الهدهد : لا تخف للبيت رب يحميه.

 

16

ما قولكم أيها المستشارون؟

لم يعد أحد يأتينا....... لاراجل ولاعلى ضامر

صارت قبلتهم ذلك البناء المكعب

ستبور تجارتنا وبضاعتنا،

ليهدم ويصبح صعيداً زلقا.

لا تنسوا الفيل ليتقدم الجيش فالعرب لاعهد لهم بمقاتلته.

وقفت الحيواتات تراقب الغزاة ونحن بينهم نمتطي العربة ومعنا الهدهد.

الفيل يأبى التقدم بإصرار فراحوا يشكّونه برؤوس الرماح.

وعلى حين غرة غطت السماء طيور ضخمة غريبة الخلق تنطلق زرافات ووحدانا متتا بعة وبشتى الإتجاهات تحمل الحجارة الذربة الحافات من طين طبخ بنار جهنم

واحدتها بحجم حبة الحمص.

راحت تقصف الغزاة دون هوادة وشتت شملهم فضاقت الأرض عليهم فولوا هاربين

 وهكذا اندحر الغزاة فعمت فرحة غامرة واختلط التهليل بالبسمات، صهلت الخيول، ورفرف الفراش.

غير أن راحيل دعاها داعي الشوق لرؤية أبيها :

خذني إليه فقد زارني في الحلم معاتباً.

الخبر الحزين عند الهدهد وأخفاه متقصداً

وصلت العربة إلى موقع المخيم

أجهشت راحيل وخمشت خدها

قبران تجاورا نمت عندهما شجيرتان تشابكتا.

إذن صرت يتيمة الأبوينً.

أنا أمك وأبوك وطوقها بحنان.

صوّت الهدهد :

ممممممممممممممممممممممممممممممم.

رحلا وهي تعيد النظر إلى القبرين إلتفاتاً كلما ابتعدت العربة.

 

17

إبتعدت العربة وبدت للعين كنقطة تتلاشى ذائبة في الأفق ولم تعد الجفون قادرة على مسك الدموع فأسلمته.

دون موعد وفي غفلة وفي فضاء ممتد خفقت أجنحة طيور بيض واكتسى الجو بأعمدة ضوء خضر

هبت ريح زعزع فاختضت العربة وارتجت وفقدت انسيابيتها المعهودة.

تمسكي بقوة يا راحيل.

وافتقد الهدهد وسرعان ما لاح واقترب قائلاً:

أتيتك بنبأ عظيم

إنطفأت نار المجوس وغاضت مياه ساوة

فزع آنوشروان إذ سقطت شرفة إيوانه

ولد النبي الخاتم.

إعتصر بطن راحيل ألم شديد

تصبب وجهها عرقاً، أحاطت عينيها زرقة.

لا تخافي تماسكي هو المخاض

أشاح الهدهد برأسه

صرخت صرخة مصحوبة بأنين وإثر زفرة

إندلقت طفلة قمحية اللون

قمطوها بخرقه بالية.

وعند واحة في عمق البيداء لمح دير راهبات من بنات الآخرة،هبطت العربة

فاحطن بالنفساء واعتنين بها.

أبدلن قماط الوليدة وسموها الذلفاء

لم يدّر صدر راحيل، جاعت الصبية

تعهدتها الراهبة ماري فأرضعتها فشبعت ورقدت

واستمرت تزور ماري وتنتفع منها علماً وإيمانا ً، وبدأت الذلفاء تزداد جمالاً

وكانت تتزيا بزي الرجال وتتمنطق بحزام جلدي ثخين يحتضن سيفاً.

بلغ محمد مبلغ الرجال فأكرمه الله بالنبوة.

آمنت الذلفاء برسالته

وصارت مقاتلة فتلبس لباس المقاتلين وتتبرقع لتخفي أنوثتها.

ولم يكن المجتمع الذكوري حينها ليثقوا بإمرأة مقاتلة فلسان شاعرهم يقول :

كتب القتل والقتال علينا وعلى النساء جر الذيول.

وفي إحدى معارك الدفاع عن المبدأ الذي آمنت به

أُعجب قائد الجند بهذا الفارس المقدام،

لكن طعنة هندوان توغلت بين أضلاعه سقط على إثرها

حملوه إلى العربة ولما كشفت عن وجهه

صرخت راحيل :

الذلفاء..............قرة عيني لا لا لا لا.

قالت بصوت منخفض: أماه خذيني إلى مرضعتي ماري أحب أن أموت في أحضانها

 

18

وهكذا قضت الذلفاء شهيدة في أحضان ماري وهي مبتسمة.

وللمرة الثالثة تفقد راحيل عزيزاً.

وسجيت الذلفاء ووقف كل من أبيها وراحيل أمها وماري مرضعتها حزانى في مشهد عظيم، الأب الذي لا يعرف دينه والأم اليهودية والمرضعة المسيحية حزانى كلهم حول جنازة الشهيدة المسلمة، لكن لامرد لقضاء الله

هو مثل الأم فهي ابنته ولكنه أكثر جرأة

وعلى ظهر العربة شاهدوها تنتحب للمرة الثانية

قال هوني عليك كم شهيد قضى من أجل عقيدة بلا مقابل.

رفيقان في متاهة البيداء لم تبق معهما سوى شربة ماء تنقذ أحدهما فتخاصما كل يؤثر رفيقه على نفسه فنجى أحدهما وقضى الآخر أليست هذه شهادة؟

بلى وثمة من يجود من أجل شعبه مقارعاً الطغاة والعتاة بالأمس القريب هجم الفرنسيون على سجن الباستيل يطالبون بالخبز وكأنما لسان حالهم يقول:

عجبت ممن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.

خذوني لأرى عن كثب بشر يتطلعون لعصر جديد

لنتجه غرباً

وصلنا باريس يوم بدء الزحف النسائي على قصر فرساي متحديات بنادق الجند المتأهبين في صفوف متراصة

أنزلوني هنا أريد أن أنتشي بحلاوة الثورة

أريد أن أكون موجة في هذا البحر المتلاطم

زهرة في أريج هذا البستان

إندمجت راحيل بالجموع ولم تعد العين تميزها بين النسوة الثائرات على سارقي خبز الشعب،

لم تعد راحيل، ولم يعرف لها قبر

غدت واحدة من الشهيدات المجهولات

ثمة من نابزن الذكورة جوداً بالنفس وقضين بفخر وإن لم يخلدهن التاريخ.

ما أبخلك أيها التاريخ أمثل راحيل لا تذكر ومثل ماري انطوانيت الفاتنة المهووسة بالتبرج تخلد

وبرغم قهر الذكورة ضحين بحياتهن من أجل مستقبل مجتمع تسود فيه الكفاءة والعلموالبذل

أين ذلك الشعرالمتلولب الأطراف كم من ذهب الفقراء سرقت لتصفيفه

ها هو يجز كصوف الخراف ويساق والرقبة التي تحمله إلى المقصلة

هكذا توقفت عن التمايل غنجاً.

وهكذا لم يعد لراحيل وجود إلا في الضمائر وستبزغ قمراً في سماء الإنسانية يشار إلى شعاعه، وبنوره يعلّمون أولادهم كيف تزهر العقول لتعبق في جنان العلم والمعرفة،

تميط أطرافاً من الستار العظيم.

 

19

قلت للهدهد:

أنت في حل من موثقنا ولا جناح عليك متى شئت الرحيل، أشعر بأن النهاية قربت.  فرد لا لن أغادرك ولا يفرقني عنك سوى المنية

دعنا نكمل الرحلة معاً بقي القليل

عشنا طويلاً في صحراء الرمل فلنذهب إلى صحراء الجليد

شوّقتني هلم بنا فالعربة جاهزة

طغاة من القياصرة بذخ وترف وفرش وثيرة ودفء وأنخاب الفودكا.

الخبز.........االخبز كما ثار من أجلة الفرنسيون يثور من أجله الروس

قال الهدهد:

يا لبؤس قيصرلم يبلغ شأو صعلوك ردد:

إني امرؤ عافي انائي شركة وأنت امرؤ عافي إناءك واحد.

ولا فهم ما الذي دعا رجل ليوقد النار على قمة جبل علم ليرشد الجياع والمدقعين

ليطعمهم من مأكل ومشرب بلا مقابل ويقول ملتذاً لزوجه:

أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكرُ.

بل أين أنت من أمير قوم يسعى في دروب مدينته ليلاً لعله يسمع صراخ طفل جائعليطعمه.

يالك من راع مضحك تركت رعيتك لملكة يتلاعب بعقلها رجل شرير يدعي أنه رجل دين.

قُتل راسبوتين

وقتلت مع الأسرة المالكة في مجزرة مروعة.

سالت الهدهد:

من هذا الذي يدعو العمال والعاطلين والجند لوطن حر وشعب سعيد؟

فرد الهدهد: آه إنه لينين.

قلت وهذا الذي يقف جنبه بشاربه المفتول وبزته العسكرية البيضاء؟

فقال: إنه ستالين.

تذكرت الآن لمَ زميلنا سلام في معهد الفنون الجميلة يفخر بتقطيع اسمه قائلاً

السين هو ستالين واللام هو لينين والألف إنجلز والميم ماركس.

 

20

قلتُ أبقي مكان لم نره وحدث لم نعشه؟

قال بلى بلد العلم والمعرفة ولكن أسفاً على رجل فاشي الهوى إستغله ما ليرضي نزعته الشوفينية.

هتلر النازي قسم البشر كما يفهم فلا شعوب ولا قبائل تتفاعل وتتنامى وتزهر واستغل العلم في جانبه المميت فأباد ملايين البشر.

نحن في سماء برلين التي تعبق برائحة البارود بدلاً من عبق عطور الغواني

الألمانيات وهن يسرعن للقاء أحبتهن وبدلاً من تمخطرهن تمخطرت العجلات للقاء الحتوف وبدلاً من تلاقي الشفاه لتبادل القبل تلاقت فوهات الدبابات لتصب نيران حقدها.

وجدنا أنفسنا بين الروس الذين يعزفون على أرغن ستالين و بقايا جيش هتلر يتصدى بيأس.

قذيفة مجرمة أصابتنا شظاياها ، تطاير ريش الهدهد وسقطنا بين الأشلاء المتناثرة.

هي النهاية إذن

زحف الهدهد وهو ينزف مقترباً من كتفي وقال:

ترى كيف كانت رحلتنا؟ أمبهجة هي؟

طويلة ومفيدة، وسألته: هل العربة بخير؟

فقال: لا تخف سنفنى جميعاً وتبقى العربة سالمة.

سارت العربة بعيداً وارتسمت بعيني صورتها كأنما تقّل عشتار وتقودها بقوة خمس أفراس

بيضاء وسوداء وحمراء وصفراء وسمراء.

 

إنتهت رواية عربة عشتار كتبها: سردار محمد سعيد

 

في نصوص اليوم