نصوص أدبية

الـمـشهـد والـظـل

"هل سأتصل بالمزارعين المتضررين؟!". وصلها صوته آمرا: "بل بالسيد سامي الرشيد، إنه سيتبرع بمبلغ مالي كبير كتعويض عن خسائر الفلاحين...". امتعضت وأبدت ضيقا واضحا: "  لك..ن "، قاطعها: " سنرتب لقاءك به !...".

 

شرد ذهنها وهي داخل الحافلة تستعرض سبب حلولها بهذه القرية المختفية وراء الجبل وخمنت أنها ستشعر بالراحة قليلا، فرغم تشعب الطريق  فهو لا يخفي نضارة أشجار الفلين والصنوبر وأشكال الهضاب المتدرجة التي تراءت كديار ذات قباب أعادتها إلى تصاميم معمارية يبدوأنها نابعة من الطبيعة. عادت إلى ذاكرتها نبرات رئيس التحرير الآمرة نائمة في خيالها كعائق صخري يطمس جمال المشهد المنفتح، توقفت الحافلة في ساحة تنطلق منها الطرق المنحدرة، استفسرت السائق عن الطريق المؤدي إلى نزل " الخطاف" فأجابها بضرورة السير بضعة أميال والحذر من الأوحال الزلقة.

 

 تخيلت ما ينتظرها على الطريق. فقد بدت السماء متلبدة سحبا سوداء وبدأت قطرات المطر تتساقط في تسارع. ثبتت حقيبة الملابس على كتفها واحتمت بالمطرية التي لم تفتأ الريح تعبث بها. بدا الطريق شبه خال. فلا أحد يجرأ على ترك دفء الموقد للخروج إلى الصقيع ومواجهة العاصفة... الريح ما انفكت تطوح بالمطرية، فأغلقتها واتخذت منها متكأ تستند عليه. تهاطل المطر غزيرا على شعرها وثيابها، ارتجفت وانكمشت على نفسها وهي تتساءل عما دفعها لكي تقبل هذه المهمة. توقفت سيارة سوداء يقودها شاب. قال آمرا:

ـ اصعدي كي أوصلك !

ـ لا، لا داعي لذلك.

ـ لكنك ستمرضين، لقد ابتللت تماما

ـ لا ! شكرا على اهتمامك... شكرا.

 

ومض البرق وزمجر الرعد، تقوس ظهرها ونكست رأسها مطوقة إياه بيديها كمن داهمه خطر أكيد، شعرت بانكماش جسدها وانقباض حركة يدها واستعرضت صورة موتها في لمح البصر وهي تلمح شعلة نارية تتهاوى في الأفق على شكل دائرة. ولما تخافت صوت الرعد مترددا في البعيد، أحست بارتخاء رجليها وثقل جسمها وتهاويه، فتح صاحب السيارة الباب لها فارتخت على المقعد. سألها: هل أنت الآنسة "هويدة" الصحفية ؟

 

وقبل أن تجيبه قدم لها نفسه باعتباره "سامي الرشيد" الذي ستتم معه المقابلة الصحفية. تفحصته كما لو كانت تبحث عن منافذ تعالج من خلالها موضوعها. بدا في أواخر العقد الثالث، ناصع البياض، عيناه داكنتان، حاجباه مقوسان، أنفه معقوف. أشعل سيجارة فاكتسى وجهه ملامح التوتر، وحين تفطن إلى تدقيقها النظر إليه، صوب نظرات طويلة نحو ثيابها المبللة الملتصقة بجسدها، فأشاحت بوجهها إلى شباك السيارة البلوري المطلي بالسواد وقد تخللتها قشعريرة. أوصلها إلى النزل دون أن ينبس بكلمة. أسرعت نحو غرفتها لتغير ملابسها بسرعة وارتدت أخرى قطنية فتخافتت الرعشات التي كانت ترجف بها ضلوعها. تدثرت بالغطاء الصوفي فغمرها الدفء واستسلمت للنوم، ولم تفق إلا على رنين الهاتف.. تناهى إليها صوت " سامي الرشيد" يعلمها أن احتفالا  سيبدأ بعد نصف ساعة في النزل. وألح عليها أن تكون متهيئة بعد قليل.. وقع كلماته كان عنيفا عليها، زرع في أعضائها الوهن. أحست بالقرية جحيما يخنق أنفاسها وأحست بهذا السيد المتعالي كما لو كان جلادها الذي تهرب منه. ولكنها فكرت فجأة أنها بمجيئها إلى هذا المكان قد كسرت دائرة الشيء المعتاد لتسير في طريق مختلف.

 

أشعت الأضواء في قاعة الاحتفال بالنزل وتخيلت نفسها في مدينة براقة الأنوار لا تعرف الحركة فيها التوقف، ولكنها سرعان ما استعادت صورة ظلال القرية التي كاد الحريق يحولها إلى رماد. لمحت بين الحضور مجموعة من الشبان يرصفون الكراسي وآخرون يثبتون الآلات الموسيقية وقد توزع في القاعة أشخاص يرتدون بدلات خاصة تدل هيئتهم على أنهم عمال ومزارعون. وبدا لها "سامي الرشيد" أنيقا في لباسه وهو يقترب من منشط الحفلة ويهمس له ببعض الكلمات. فأشرقت ملامحه وشرع في العزف. صعد الرشيد على الركح واعتدل في وقفته ثم تنحنح في مكبر الصوت وقال بنبرات بدت قوية حازمة: "  لقد حافظت هذه القرية على خضرتها بفضل جهود سكانها الخيرين وهذا ما حدا بي لتقديم مساعدة متواضعة للعائلات المتضررة !  ".

 

عمت الفرحة جميع الوجوه وانطلقت عاصفة التصفيق وارتفعت عبارات الاستحسان وفي خضم ذلك انسحب الرشيد وسط التصفيق المتواصل فأخذ المصدح منشط الحفل لكي يملأ القاعة بتعليقه: " شرف الأموال يكمن في نبلها ونبل الإنسان يبدو في مواقفه "

 

رددت في أعماقها: " إيمان القرويين لن يتصدع. فقد كانوا على شفا حفرة النار لكن هذا الشاب الثري ساندهم، فهل مأتى هذا الفعل النبيل إرادة تحريكهم كالدمى، يبدو أن انجذابه نحو قريته جعله يحاول مسك زمامها قبل فوات الأوان ".

 

لكن لماذا يتصدع هذا التفكير الظاهر ؟ ثارت على أفكارها الغارقة في بحار الشك، فانغمست في التعبير عن زهوها بالتصفيق وهي تشاهد لوحات الرقص التي جسدتها فرقة الرقص الشعبي التابعة للجهة، لكن الصداع انتابها بشدة جراء قرع الطبول.. فغادرت القاعة. وحين عبرت الممر شعرت بخطوات تتبعها. التفتت كان هو " سامي الرشيد ". انتابتها حالة من الغيظ سرعان ما كتمتها.

 

خاطبها بلطف: " أتسمحين بالتحدث في مسائل تهم عملك ؟ "

ـ غدا، صباحا، سأتصل ببعض القرويين الشاهدين على كرمك وخدماتك.

ـ لقد أحضرت لك قائمة تحوي أسماء هؤلاء وشهاداتهم !...

قاطعته بضراوة: " لم تسيء الظن بقلمي وتفتك جهودي ؟ "

ـ كل ما في الأمر أنني أرحتك من جهد لا فائدة منه.

، لكنني لا أخط كلماتي جزافا !...

امتعض فعقبت:

ـ سأتصل برئيس التحرير لنناقش المسألة.

ـ لقد حسم هذا الأمر قبل مجيئك...

 

تأففت بضجر وأصدرت آهات متقطعة وطفقت تتفرس في الممر سارحة مع أفكارها حتى جاء صوته حادا:

ـ لم هذا الصمت ؟

ـ لأنني لا أقبل هذا التواطؤ !...

 

قال لها في سخرية لاذعة إن أعوانه قد تكفلوا بإرسال كل التفاصيل إلى الصحيفة عبر "الفاكس " وإنه يعتذر عن سوء تقديره لجهودها ودعاها إلى البقاء أياما أخرى في هذا النزل، نزل والده، كضيفة مبجلة. أشعرتها كلماته أنه يخطط لشيء لم تتوصل إلى فهمه فاتجهت صوب المطعم لتتناول العشاء. بدا الأكل خاليا من كل نكهة. تناولت الخضر المسلوقة ببطء وهي تقنع نفسها بفوائدها لتستعيد نشاطها. وحين عادت إلى غرفتها حزمت أمتعتها ونامت بهدوء.

 

أطل الصباح مكفهرا تنبئ غيومه بنزول الأمطار. نظرت إلى الحقيبة فعادت ذاكرتها إلى الوراء. تساءلت: لم أتيت إلى هذا المكان المرتفع ؟ أهي التضاريس المتشعبة التي تؤدي إلى طرق مختلفة ؟، وشعرت بالخيانة التي بيتها رئيس التحرير بالتواطؤ مع "سامي الرشيد". استمعت إلى قطرات المطر تنقر الشباك بإلحاح. تحولت النقرات إلى همسات تجد فيها مواساة لها، ولكن ذلك لم يثنها عن قرار الرحيل. استعدت لتوديع المكان وكأنها تعبر عن اختناقها وعن حاجتها للهرب. أطالت النظر إلى زخات المطر، استنشقت كرمها الفائق على الكائنات لكنها فزعت حين تراءت لها في صورة النزيف الذي انفتح في أعماقها وساءها أن ينفتح شرخ في حياة هذه القرية. اتصلت ب "سامي الرشيد" لتعلمه بأنها قد قررت المغادرة. حاول إقناعها بأن لا شيء يجبرها على العودة في هذا الطقس الماطر. لمحت في عينيه براءة لم تعهدها لكنها لم تفهم معناها وطفقت تنظر إلى السقف بقلق، كأنها تبحث عن منفذ للتفصد والركض بعيدا. ويبدو أنه أدرك ما يجول في خاطرها، ابتسم بمكر وهو يقول: "من الأجدى أن تقومي بجولة في أرجاء القرية عندما تصحو السماء ".

 

خمنت أنها استعادت حريتها، لفت رأسها بشال صوفي وغطت رقبتها وهي تجابه الصقيع إثر توقف المطر عن النزول. وعندما همت بالخروج وجدته في انتظارها لاصطحابها، أقنعها أن الطرق المنحدرة خطرة وكان على استعداد لكي يكون الدليل الذي تعول على خدماته. وأعلمها أن الحريق نتج عن " تسبب البكتيريا في اشتعال مفاجئ في أكوام التبن المخزون في مستودع. فالهواء كان رطبا للغاية والتهوئة رديئة".

 

فتحت بلور السيارة قليلا فبلغتها الرائحة الزنخة المتصاعدة من ركام الرماد المتخثر إثر نزول المطر، كما أدركت فظاعة الحريق في الحقل الممتد أمامها والحقول المجاورة. تساءلت عن سبب كل هذا الحريق. أشار إلى كوخ بني بالقش والتراب...

 

الأشجار بقايا أخشاب متفحمة. تحولت الأكواخ الكائنة بين الحقول إلى بقايا قش محترق ولم يبق منها إلا الأعمدة الحديدية والأسلاك المتقطعة من أثر النيران المتأججة بضراوة. جمع من الرجال ينبشون أكوام التبن باحثين عن أوان متفحمة.

 

تساءلت: ـ ماذا يضيرهم لو تركوا هذه الأواني ضمن البقايا المحترقة ؟!

ـ إن الأمل يحدوهم إلى البحث عن جذوة الحياة ؟

قطبت جبينها مستفهمة:

 ـ وأي أمل نستشفه من خلال ذلك الفعل الخالي من المعنى ؟!

ـ لو زرت ديار الفلاحين المتضررين لاكتشفت أكياس الفحم التي جمعوها على أساس أنها بقايا الحريق.

 

رفعت نظراتها نحو السماء الكالحة المتجهمة. كانت السيارة تشق المنحدر مخلفة وراءها بقايا الحريق لتعرج نحو طريق لم تبلغه الفاجعة إذ ذاك عمدت إلى إقناعه أن التحقيق الميداني رحلة بحث عن الحياة وأن توهج الكتابة نابع من مشاهداتها ومن نبضات شهادات المتضررين، لكنه أخبرها أن التحقيق قد نشر هذا اليوم، لملمت أشلاء نفسها وصممت على مغادرة القرية في الحين.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1270 الاثنين 28/12/2009)

 

في نصوص اليوم