نصوص أدبية

منصور ضيف الله: من ذاكرة البدوي (4)

MM80بيوت الشعر تتناثر على سفح تلة مقابل خربة الماضونة، بيت الشيخ يقترب من حافة الوادي، غادره أولاده ؛ فايز لم يعرف له قبر، يقول بعض عرب الأحيوات ان طائرة الهليكوبتر نخلته تماما، وعودة، الشاب اليافع، صاحب محل الدراجات الهوائية في سحاب، وعاشق جارته، الفتاة الخجول، غدا من أصحاب مقبرة الأرقام . خلا شق الشيخ من الخطار، لم يعد المهباش يصدح كل ليلة، ولم تعد الدلال فواحة، ولم يعد كليب رفيقا للحريق والاشتعال .

الشيخ يقترب من فقدان الذاكرة، حتى أمس خرج شبه عار، يأكله الفقر، و يغمره الفقد، انحنى طوله الفارع، انهدت أركان مجده، وظلت ميثاء والماضونة رفيقيه، تلك ترعاه بيد حانية، وهذه بصمتها، وجلال تلالها، وبهاء قمحها، تستقبل أيامه الأخيرة . أيه يا دنيا، كأن الشيخ لم يطارح الأمير عبدالله الود، ولم يهمس في أذن المرحوم الملك الحسين مطالبا، ولم تشد مجالس سيناء، ومقاعد الرجال بحكم قضائي أبهر الجميع، وفك النشب، وقتل حرب القبائل في مهدها، يا حروب القبائل أما آن أن تنتهي !!

في الماضونة حطت الرحال، وظلت القدس عشقه الأبدي، منصات رفض التهويد، مجالس الجهاد، خطط تشكيل لجان العمل، التنسيق مع الحسيني، حتى علاقاته الودودة مع المندوب الانجليزي في بئر السبع، ورئاسته مجلس التنسيق العشائري مع شرق الأردن، ومرافعاته العشائرية ضد حمد بن جازي، في أبل تاهت، أو غزوة حدثت، كلها لم تعد تجدي، والشيخ وحيد، ترعاه ميثاء، وتضمه الماضونة .

اقترب الصيف من نهايته، جمعت الغمور، ونقلت الحلل، وكبرت البيادر، درست وذريت وبيع القمح إلى تجار عمان، لم يعد هناك شيء، وأزف وقت الرحيل . ذات مساء بعيد وجد الطفل نفسه يعتلي “الترولا”، أشياء كثيرة وضعت بطريقة فضة، تكومت فوق بعضها، والتراكتور يزفر لحظات الوداع الأخير . الصمت، السكون، تناغم التلال، صفرة الأشواك وبقية النبت، انطلاقات الطيور المفاجئة في أسرابها، الأفق البعيد المفتوح، حتى بقية بيوت العرب غدت نقاطا باكية تلوح بالوداع، يا الله، مشاهد ما زالت تأسر الروح وتعيد السؤال الخالد : إلى أين ؟!

عمان هذه المرة، يقولون: ماركا الشمالية، ولماركا حكايا، أول المراهقة، أول حبيبة، أول الموت والفقد، وأول ابريق شاي عماني، بلا حلاوة، وبلا سكر، وبكثير من النعناع، بربكم من قال ان للمدائن حلاوة، ولها طعم السكر، ألم تغرق البدوي في عالم جديد؟ تقصف من عمره عاما تلو عام، وتتركه طوال عمره على محطات الانتظار.

ويا ماركا، يا أول حبيبة، يا وجع العمر، ما زلت أحبك !!!

 

في نصوص اليوم