نصوص أدبية

هيام الفرشيشي: طـائـر السـمـاء

heyam fershishفي شرفة تطل على الشاطئ، تترك روائح البحر في الحلق طعم الملح ويردد هدير الموج الصاخب صدى لحكايات منسية في أعماقه،  أحاول خط تفاصيل الرحلة على الأوراق إلى  الهوارية، بدءا من الحافلة التي كانت تنتظرنا لنزور البرج الحفصي الأثري الذي يعتلي الهضبة. والذي لم يعد ثكنة عسكرية وغابت عنه تلك العيون التي تستجلي رغبات سكان البحر في المغامرة.

لم تفصلنا عن الحقبة التي شيد فيها "البرج"  غير أربعة قرون كما قال لنا دليل الرحلة ومع ذلك فتبدو المغاور المحفورة في الصخر أكثر صلابة وهي تقاوم وزر الزمن، وبدت جدرانه  متآكلة تناشد الترميم وتثبيت أعمدة جديدة. في ذلك البرج الأثري المتصدع وجدنا فريقا مختصا في دراسة الآثار يتقدمهم أستاذ فرنسي وهو يتحدث عن تاريخ نشأته وعن تصميمه وعن أسباب بنائه في هذا المكان المرتفع قبالة البحر، وبدا لي ذلك الأستاذ الفرنسي صاحب اللحية الكثيفة الذي يفسر وقد اصطحب معه الخرائط التي تتوسط سبورة وكأنه يعطي الدروس عن تاريخنا وهو يصرح لفرق التصوير التلفزية عن دراسته لآثار بلادنا. اقتربت منه، وسألته عن سبب الاهتمام بتاريخنا، فرد بمكر: "قد أبحث عن المجهول في ذاكرتكم، كما يبحث بعض سكان بلدكم عن جرار من الذهب في الجدران المتصدعة في هذا الأثر الذي كانت له أعين تترصد القادمين من منافذ البحر"، كان يتكلم ويرفع عينيه إلى الفضاء حيث يفتح طائر الحبار أجنحته ويحلق في اتجاه الأراضي الممتدة.

لم تبق من مشاهد تلك الزيارة غير صور بثتها التلفزة  الوطنية في أخبار السادسة التي تصدرها عالم الآثار الفرنسي ومشاهد تنقلنا بين الصخور والمرتفعات. وكلما يواصل التحدث عن البرج  ترتسم صورته وهو يبتسم ببرود، وتلاحق نظراته طائر الحبار.. تصير ذاكرتي الملجأ لطفلة تمسح وتفسخ الكثير من تفاصيل هذه الرحلة فتزداد الخربشات عمقا واتساعا مع مرور الأعوام، لا تترك للحاضر إلا ذلك البهو الصغير المطل على الشرفة، أين أترشف قهوة أو أدخن سيجارة دون أن أعانق الحلم أو أتفرس في اللحظة المثقوبة..فالذاكرة البعيدة تستعيد صورا وأصواتا ووجوها آدمية وهلامية تجوب عبرها ذاتي منعطفات الماضي.

عاد بي صخب الموج إلى رحلة حطت على مرفأ من مرافئ الطفولة،  إلى هذا المكان ذات رحلة في مصيف صيفي. لن نمكث في المغاور الأثرية  للهوارية كما أعلمنا منظمو الرحلة إلا فترة القيلولة لتناول الفطور المعد في علب. فانشغلنا بتقمص أدوار من وحي المكان، القراصنة وسكان شبه الجزيرة. وبدا هدير الموج يسرد  أسرار أقاصيص كامنة بين طياته. ففي هديره صدى لرغبات متوحشة عند سكان البحر ليلسكوا سبل الرحيل نحو الضفاف التي تحيط به من كل مكان، يشيعون بأنظارهم إلى لوحات تتوزع فيها الألوان المائية والصخرية وقد نفذ فيها قبس من نور إلاهي.

يخفت هدير الموج وأنا اشاهد من الشرفة العالية وعن بعد الصيادين "البيازرة" وهم يطلقون سراح طيور الساف في عروض الصيد، ولم تكد تحلق في السماء فاتحة أجنحتها حتى عادت إلى ذهني أسطورة قديمة، "طيور تعشش وتعيش في السماء ولا تموت". قد تعود  إلى كوكبها المجهول، لتزور الأرض من جديد في مواسمها المعتادة.

تعود "طيور السماء" إلى الهوارية أو"أكيلاريا" كما أطلق عليها الرومان "أرض الساف" مند التاريخ القديم مع فصل الربيع. اذ يدرك أن الناس في هذا المكان تتسلى بصيده وبإطلاق سراحه، ليصطاد طيور السمان والحبار وأن الناس هنا هم أنفسهم الذين رسموا لوحات فسيفسائية لصيده منذ القديم، وكأنه يستجيب إلى المشاركة في لعبة تغويه.

  يطير الساف في الفضاء وقد أخذ من لون السماء زرقة الامتداد واللون الرمادي حين تكون حبلى بالغيوم وينأى إلى نقطة عبثية ترسمها العين في مكان وهمي، تشيعه أعين الجمهور، ويحاول ذهني أن يجتاح  المجهول كأنه يجلس في ضفة ولا يشغله غير الانتظار، كأنه بصدد استرجاع شذرات من حلم قديم، في حين أن البصيرة لا تعكس إشراقاتها المائية تجاه حلم مشتت مبعثر وإنما هي مرآة تعكس ما تلتقطه الروح من حقائق في رحلة ما لا يدركها،  ينعكس عليها نور يجتاح ظلمة ما فيشع بحقيقة منتظرة..

بين الجمهور كان أستاذ التاريخ الفرنسي يحاور صيادا أنس إليه طائر ساف وهو يحط على كتفه تارة وعلى يده حينا، وكان الصياد يتحدث إليه باهتمام وكأنه يحدثه عن تفاصيل تربية هذا الطائر السماوي، الذي سرعان ما نفض جناحيه وحلق بعيدا، خمنت أنه سلك طريقه إلى الضفة الأخرى وقد حمل بين أجنحته رسائل عن اناس يقدسون الطير الذي يسبح للسماء، يربونه ليعتقوه عله يبشر بحرية شبيهة بامتداد البحر والسماء..

يغادر أستاذ التاريخ الفرنسي ساحة إطلاق طيور الساف مرفوقا بذلك الصياد في اتجاه الطريق الصخري، أشيع بصري نحوهما وأحاول أن أتبين الخط الفاصل بين خيط الحكاية وبين  الستار الذي تنعكس عليه صورة الأستاذ الفرنسي الذي  سيعود محملا بحقيبة أوراقه المتلصصة، في حين بدأت الشمس تحتجب  ليلقي الظلام النقاب على المشهد..

تصمت كائنات العتمة وتسترسل كائنات نورانية في نسج الرؤى، تناهت إلى مسمعي خربشات على جدران الشرفة، ثمة طائر يأوي إلى أحد أركانها، ولم أجرؤ على طرده، ينثر الحبوب بمنقاره في الشرفة، ثم يرفع رأسه وكأنه يتفرس في كون بعيد لم تدركه أعين الإنسان، ثم يفتح جناحيه ويطير في الفضاء البعيد تاركا على الجدران خربشات كأنها رسمت بأصابع طفولية.

أعلق على الأسوار الصامتة صخب الازمنة الغابرة الذي يتردد كرجع الصدى كلما نهضت الروح من سباتها..أتفرس من بلور الباب المنفتح على الشرفة التي أضحت واجهة  لحلم لا يدرك المستحيل، إذ يحدث أن يأوي الحبارإلى الشرفة ليلتقط حبوبا نثرها طائر الساف، ليباغت بذلك الصقر الصغير ينقض عليه فقد كان مختبئا في مكان قريب يترصد قدومه..

سلكت الحافلة الممرات الصخرية نحو كركوان المدينة الأثرية وما بقي من أرضيات فسيفسائية ومن معالم مدينة  تفتح شرفاتها للبحر وتنصت بخشوع لهدير الموج، خبأ البحر أسرارها ولكن في أعالي الهضاب بقي الفن يحتفظ بشواهده في تصاميم الإنسان وهو يعانق الحضارة. وهناك كان أستاذ التاريخ الفرنسي حاضرا، يعقب عن كلام الدليل ويشرح له  تفاصيل فاتته عن الحياة الباذخة لسكان هذه المدينة الجاثمة فوق الهضبة..

غير بعيد عن هذا الموقع كان طائر ساف، يلتقط الحبوب من مساحات شاسعة قريبة يبدو أنها مخصصة لزراعة القمح، ويجمعها في تجويف في إحدى الصخور، ثم يلتقطها بمنقاره ويطير في الفضاء البعيد تتعقبه الأعين، وكان ذهني يحدثني عن كيد هذا الساف وهو يرسم شباكه لطيور السلوى والحبار..

اقتربت من الدليل الذي يعرف تاريخ هذه المنطقة، وقد يكون اطلع على طرق تربية طيور الساف، حدثته عن  طائر غريب عشش في هذه التلال رأيته البارحة يأوي إلى شرفة غرفتي بالنزل، وينثر الحبوب لصيد طائر الحبار.. قال إن الصيادين هنا قد يكونون على علم  بالأسطورة المنسية لهذا الطائر، سيما هؤلاء الصيادين الذين يربونه، ثم عقب بصوت خافت: بأن أستاذ التاريخ الفرنسي كان يتعقب الأماكن التي يأوي إليها طائر الحبار، ويقول إنه يريد أن يأكل من كبده فهو يعاني من مشاكل جنسية".. أشحت بوجهي إلى نقطة التفكير وأنا أستعيد ما قاله لي السيد الفرنسي البارحة "قد أبحث عن المجهول في ذاكرتكم، كما يبحث بعض سكان بلدكم عن جرار من الذهب في الجدران المتصدعة في هذا الأثر" وفي أحشاء الحبار كما تتحدث الأساطير أحجار كريمة قد يكون التقطها من مخابئ الكنوز المدفونة هنا وهناك..

نغادر كركوان وتسلك الحافلة الممرات الصخرية، تتبعها السيارة الرباعية الدفع التي يقودها الأستاذ الفرنسي، كأننا نغادر عصور التاريخ ونطأ عالما طبيعيا يصارع الفكر والإبداع. لنعود إلى الهوارية فنتوغل في طرقها الصخرية ولا ندرك إن كنا نتمتع بجمال الطبيعة أو نشتم روائح التاريخ وبقايا أحداثه.

أشتم روائح الماضي مع ايقاع البحر عند ارتطامه بالصخر، ويأخذني صخب الموج إلى مغاور ملتصقة باليابسة يحيط بها البحر من جهات ثلاث. يغريني الموج الهادربالرحيل دون أن أجرؤ عن توديع الغرف الصخرية حيث استشعر السكون والثبات وكأنني في حضن ذاتي الوارفة بالظلال. مغاورتتكسر على جدرانها الصخرية اشعة الشمس الحارقة. فينعكس النور على الموج كالمرايا تمنح المياه المالحة لمعانها وإشراقاتها.

من الغد صباحا تباغتني صورة الصقر الذي ينثر الحبوب للحبار، أغادر الشرفة وأترك مفتاح الغرفة، تسلك الحافلة الطريق الصخري في اتجاه العاصمة..وكلما التفت من بلور الحافلة أرى طائر الساف يرفرف بجناحيه ويحلق في نفس اتجاه الحافلة، يختفي عن ناظري ثم يعود إلى أن غاب وراء الجبل..ومن مذياع الحافلة يتحدث قارئ الأخبار عن سقوط أستاذ تاريخ فرنسي في ممر صخري فجرا، وجدت في حقيبته خرائط عن كنوز بالمنطقة، كما وجدت على جسده آثار مخالب طائر الساف..

 

في نصوص اليوم