نصوص أدبية

عاتق نحلي: ماء البَرَكَة

atiq nahliلم يكن الخبر الذي ألقاه في وجهه الطبيب هذا اليوم بكل برودة، وهوأن نتائج الفحص بالأشعة تؤكد بأنه يعاني من التهاب حاد، ومزمن في مفاصله، سبب شروده وحسب، بل كان شيء آخر اعتصر خياله من أجل تصوره، وهو أنه سيصبح في النهاية، مثل الإسفنجة. وتساءل هو الذي يكره الإسفنج، ولم يتذوق طعمه في حياته كيف يحكم عليه القدر بهذه القسوة. كان في الثلاثينيات من عمره، وهو يشعر بأنه أكبر من ذلك بكثير، لكثرة ما خبر من تجارب ربما.لم تكن تؤرقه أية أسئلة وجودية أو حياتية باستثناء الحصول على الترقية التي طالما انتظرها، للتمكن من بناء منزل لعائلته الصغيرة، والتخلص من عبء الكراء، وإحساس اللجوء.

في المقهى حكى القصة كاملة لصحبه الذين تحلقوا حوله مبدين تأثرهم بمرض صديقهم، وكما يحدث في مثل هذه الحالات، فإنهم حاولوا مواساته وأجمعوا كلهم تقريبا على أن الله قادر على شفائه، فما عليه إلا أن يستعصم به وأن لا يلتفت إلى كلام الطبيب، وكان هو على مضض يجاريهم في ذلك، ويهز رأسه موافقا بين الفينة والأخرى، وكانوا هم بسبب معرفتهم لنزعته العقلانية لا يؤملون أن تجد كلماتهم صدى في نفسه.

في الأيام التي سبقت الموعد الذي ضربه الطبيب له حدثت أشياء غريبة، فبينما هو جالس في المقهى أمام حاسوبه يقرأ، ولا يستمع إلى الموسيقى كالعادة، انتبه إلى المستجد الذي وصل للتو، والذي يتعلق بنشر وزارة التربية الوطنية للوائح الناجحين في الامتحان المهني، فشعر باضطراب شديد مصحوب بفرح حذر، وازدادت وتيرة دقات قلبه التي كان يسمعها واضحة، واعتقد أن الجالسين بقربه كانوا يسمعونها أيضا .

وفجأة ضيع تلك المرونة في التعامل مع الحاسوب، وبعد عناء استطاع أن يصل إلى اللائحة، وشرع في البحث عن اسمه، وفي الحقيقة أنه لم يجد صعوبة في ذلك، فقد كان اسمه في رأس اللائحة، ولأنه لم يصدق، فقد قرأها صعودا ونزولا مرات كثيرة .ولما هدأ روعه، وأيقن أنه نجح، هرول إلى بيته، ليخبر زوجته التي كانت تنتظر بحرقة ربما أكثر منه، وعندما أعلمها بالخبر، عانقته، وأخذت تزغرد فرحا .ثم أنها حاولت أن تضفي على المنزل في ذلك المساء جوا احتفاليا والغريب أنه نام في تلك الليلة سعيدا –وإن كان مطوقا بنقاشات اليومي المؤجلة-دون أن يستشعر ألم المرض .

وعلى غير عادته كان في الصباح أول المرتادين للمقهى يستمتع بسماع صباحيات فيروز المفضلة لديه، رغم أن الرجل القريب منه، والذي كان يتكلم في الهاتف قد جعله يشعر للحظة بالضيق، ويحاول دون قصد أن يعكر مزاجه الذي بدا أنه طفق يصفو أكثر من السابق عندما فهم أن الرجل يريد أن يبيع قطعة أرضية، لسبب ما طارئ، وبرخص التراب في موقع جيد، وأن المبلغ كان متوفرا، وهذا هو المهم .ودونما تأخر انتهز الفرصة، والتفت نحوه، ثم دعاه لشرب الشاي، وشرعا يتفاوضان حول القطعة إلى أن تراضيا، وتواعدا بإتمام عملية البيع والشراء .

انصرف الرجل إلى حال سبيله، وبقي هو في المقهى .وبينما هو مستغرق في قراءة إحدى الجرائد اتجه نحوه أحد المتسولين ممن يدعون انتماءهم لسلالة الأولياء والصالحين، وشرع يدعو له بالخير، وهنا مد إليه بعض الدراهم دون اكتراث، فناوله المتسول قنينة صغيرة مملوءة بماء البركة كما ادعى، وطلب منه أن يأخذ منها رشفة تبرئه من كل سقم .وفي هذه اللحظة التحق به بعض أصحابه، وتحلق حوله بعض الزبائن ممن يعرفون موقفه من هذه الأمور.غير أنه أرجع القنينة للمتسول غاضبا مستنكرا وجود هذه العقلية التي تؤمن بالبركة في زمن التطور العاصف للعلم، والطب في زمن الذرة والإلكترون .لكن المتسول رنا إليه، ثم قال:

-فلتعلم يا ولدي أن بركة الأولياء والصالحين هي العلم واليقين الذي طوى كل الحقائق.

ساعتها تواردت التعليقات الساخرة من المتسول، والمشجعة له هو على الشرب من ماء البركة، وعلى حين غرة أخذ أحد أصفيائه القنينة، وناولها إياه قائلا:

-اِشرب، ماذا ستخسر؟

 ولكي يصرف المتسول ربما ,ويفرق الجمع الذي يطوقه، كالأبله تناول القنينة بسرعة، وأخذ رشفة أولامس القنينة فقط، ورماها في وجه المتسول الذي التقطها ببراعة، وانصرف، ثم انفض الجمع، وعاد هو إلى بيته .

في الصباح الموالي كان يجلس أمام الطبيب الذي استقبله على غير عادته إذ اطمان على حالته، وأخبره بانه حاول أن يتصل به، وللأسف، فانه لم يعثر على رقم هاتفه الذي كان من المفروض أن تطلبه منه السكرتيرة .فلو كان تركه لأخبره بأنه حدث خطأ بسيط، فبدلا من إطلاعه على نتائج الفحص الذي أجراه هو، أطلع على نتائج فحص مريض آخر .

وقد حاول الطبيب أن يزجي له هذا النبأ بلباقة، وفيما يشبه الاعتذار الذي لم يكن مهتما به في هذه الأثناء، ومن فرط فرحه أفهم الطبيب أنه ليس هناك من مشكل، وأن هذا الخلط وارد جدا في كل مكان، وبدوره أفهمه الطبيب أن حالته هو ليست بخطيرة، وأنه سيشعر بتحسن بمجرد الخضوع للراحة، وتناول بعض العقاقير، وتجنب بعض السلوكات، كحمل الأشياء الثقيلة .

في المقهى أخبر أصدقاءه بالحادث مشددا على أن الأمر لم يكن يستدعي كل ذلك القلق الذي استشعروه، وأنه هو شخصيا كان مؤمنا بقدرة الطب، والعلم، والعقل .

حينئذ ملأ صوت المتسول المقهى مزجيا الأدعية للزبائن، مشيدا ببركة أسلافه الأولياء، وبمائهم .فما كان منه إلا أن نهر المتسول ناعتا إياه بالمشعوذ، حاملا، ياه على الانصراف، لأن زمنه القروسطي قد مضى وانقضى .

 لكن أصدقاءه انتقدوه بشدة داعين إياه إلى لزوم مكانه، وترك الرجل يطلب رزقه، وعدم الاستهانة بالأولياء والشرفاء، وأنه لوكان منصفا، لكرّم هذا الشريف في ثوب المتسول، وكافأه .فقد سقاه بدون مقابل ماء البركة الذي أبرأه من سقمه، وأنه ليس، مثل اللص الذي سرقه في ثوب الطبيب .

كانت نقداتهم حادة جريئة على غير عادتها، فشعرجراءها بأنه قزم حقير، وبأن صوت العقل يختنق في داخله، مما أجبره على مغادرة المقهى مصدوما غير مصدق ما حدث .بينما تحلق الأصدقاء، والزبائن حول المتسول طالبين رشفة من ماء البركة .

 

نحلي - المغرب

 

في نصوص اليوم