نصوص أدبية

مريم لحلو: الحكمة تأتي دائما متأخرة

MM80يغلق المختار الباب وراءه .. يقف قليلا .. يتنفس بعمق .. يضع يديه في جيبي سرواله المرفوع بشكل مبالغ فيه .. يداعبه صديقه المنتظر له عند الناصية على هندامه الغريب. لا يرد على الكلام المعرِّض بحبيبه فريد الأطرش فلا وقت لأي منهما لمشاحنة جديدة، يقطعان الشوارع الواسعة الجميلة تحت ظلال شجرات الخروب .. لا يثنيهما الأمر العظيم الذي سيقدمان عليه عن تأمل المنازل التي تركها المعمرون بحدائقها الغناء، وسطوحها القرميدية المائلة والمدخنات الساحرة التي تغطي جانبا منها أعشاش اللقلاق .. سرعان ما يصلان إلى البركة الاصطناعية التي يسميها الجميع "بالبحر" فيجدن الحوريات المطلوبات يخطرن على جنباتها .. يفرك الميلود يديه ويقول لصاحبه (لحمام آصاحبي لحمام!!) تظهر نظرة استغراب في وجه المختار لأنه شدد على صديقه في المواصفات المطلوبة .. إما شبيهات لليلى مراد أو لاسمهان .. ولكن الميلود يبدد حيرته بابتسامته المستهترة (راه ذاك الشي اللي باغي تحت الحايك ..) ثم يشرع في الغناء والحركة بمهارة باز محترف:

- مّا يا مَّا حايك الوردة ..

لا شك في أنها كلمة السر إذ بمجرد ماسُمعت اقتربت إحداهن وكشفت عن وجهها المملوء أسنانا ذهبية، وخالات مزيفة .. وظهر الجيد والذراعان والصدر الهائل المهاجم وفاحت في الجو أنفاس عطر لاذع رخيص .. سألها بخبث عن المطلوب فندت منها ضحكة خليعة مناسبة للصوت المبحوح ولذئبة شوارع:

- كاين أسيدي .. بحال نْجُود بنتْ الشيخ طْرادْ .. وكاينْ بحال اسمهان .. وحتى بحال الهنديات .. كثَّر غِي صْوالدا ..

يتبعانها حيث الدروب ضيقة ،ملتفة متعرجة كمتاهات. والجدران كثيفة واطئة كأنها ملتصقة أوكأنها على شفا الانهيار .. ثم تظهر أسراب من النسوة يقتعدن العتبات بغلالات شفافة ومساحيق صارخة وأفواه تمضغ الهواء بشراهة  شاعرات أسلحتهن الجنسية كقاطعات طريق محترفات .. أتكون نهايته هنا في هذا الحي السيئ السمعة ؟كان يفكر بكيفية الاهتداء إلى طريق العودة .. تذكر "مْقيدَش " ولكن الأوان كان قد فات ليشرع في إلقاء الحصوات اللامعة عبر المنعرجات .. تنهد مرتاحا عندما رأى المرأة تدفع بوابة منزل ينزلون دركاته الثلاث فتظهر شمس العصر متربعة جانب الفناء الكبير وقد لونته بصفرة مثخنة للروح.

تنادي الفتيات بأسماء مستعارة لممثلات أومغنيات شهيرات . . يخرجن الواحدة تلو الأخرى في استعراض للقدود ،والنهود، والسيقان مرتديات فساتين قصيرة مشدودة شدا عند الخصر فكأنما سيتقصفن ..

يضع المختار سبابته على شاربه الرقيق علامة الإعجاب.يراهن كلهن، دون استثناء، كبطلات أحلامه.يقبض على ذراع واحدة منهن .أحس وكأنه يسوق شاة للذبح وهي مستسلمة تماما وتحفظ دورها بإتقان بارد .. أو لعله كان هو الشاة لجزار غير مرئي .. تأخذه إلى غرفتها .. ودون إضاعة وقت تشرع في خلع ملابسها في سكون .. يخجل من إيقافها وإملاء رغباته .. فما هكذا تصور.كان يريد موسيقى، ورقص كما في فلم "يا حبيب الروح " بطولة ليلى مراد وأنور وجدي وينتهي الفلم بقبلة طويلة فقط لا غير .. يبدو أن السينما ستختفي ولن يبقى منها سوى أبطاله يتسكعون في أحلام منامه ويقظته .. ولم يدر لم فجأة ظهرت العالية ورأى وجهها شفافا تحت رعشة التبسم .. ورأى نفسه ينحدر بسرعة صخرة عظيمة من قمم رغباته إلى قيعان الكهوف المظلمة. آه العالية!هي المرأة الوحيدة في حياته التي تشبه شطا بل هي شط ناعم دافئ وثير ولكنه غارق في البرودة والصمت .. تمنى المختار أن يجد الحب لا كما يراه أهله جميعهم .. حب يمارسه بطقوس الأفلام التي دأب على مشاهدتها .. لا بطقوس التستر و العتمة وطغيان الإحساس بالدنس .. هو يحاول البحث عن لحظة عصية على الاقتناص داخل سريره .. يريد أن تنحل عقدة لسانه .. أن يعبر عما يعتمل داخله دون استعارات ملتوية .. بفظاظة .. ببذاءة .. ولم لا؟ يريد أن يخرج من وقاره المصطنع يريد أن يثور عن سكة حياته التي تربطه كالحمار إلى الطاحونة .. أيقظه من سهومه خلو صدرها من أي أثر للثديين.قالت بحزن ووضوح:

- هذا لْحَاضَرْ يَا بَنْعَمّي .. الدّاهم ( أخذهم) الخنزير ..

بدأت عيناه تلمعان لمعانا غريبا .. شيء من الإشفاق وكثير من الحسرة .. حاول ألا يجرح وقار كآبتها فابتسم ابتسامة رمادية .. لاشك في أنها كانت تحاول إخفاء ألمها الكبير وراء هذه الجملة البسيطة العنيفة المهاجمة التي دربت نفسها عليها آلاف المرات .. قد يتوارى المرء خلف أخلاقه أو أفكاره ولكنه يراها الآن متوارية وراء صدرها الفارغ من كل أنوثة .. فصارت كلها صدرا بلقعا يداري سوأته باستهتار بئيس ..

تخيل المرض الذي ذكرت والذي لا أحد يجرؤ على ذكره بالاسم ، وحشا بريا يقتات من ثدييها كل ليلة إلى أن أتى عليهما.وهي لا تملك إلا الخضوع كما تفعل مع زبناء كل ليلة.همّ بها ولكن رائحة الوحش الرابض على سريرها ملأت خياشيمه،تراجع، أحس بتعاطف كبير ولكنه بقي صامتا جامدا أكانت وحدها هكذا منذورة للألم بلا صديق حنون؟ الأكيد ،أن الكثير من زبنائها لم يفكروا بطريقته تحت عمى الشهوة أو تحت عمى روحي لا يفرق بين امرأة بثديين وأخرى دونهما .. يا للتعاسة كيف نتساكن مع مثل هؤلاء؟أليست هذه الساعة التي تقضم عمرنا وتتلف أجسادنا بلطف عجيب أشبه بهذه اللعنة التي لا تذكر باسمها المرعب؟؟

أحس نفسه حكيما .. ولكن، الحكمة تأتي دائما متأخرة ..

 

مريم لحلو أديبة من المغرب

...................

الخنزير الاسم الشعبي لمرض السرطان عافاكم الله

 

في نصوص اليوم