نصوص أدبية

أنمار رحمة الله: رِقاب مُتحجِّرة

anmar rahmatallaبصعوبة جسيمة دخل الرجل ذو الرقبة إلى الطبيب الجرّاح، بعد أن مسك أحدهم يده، وصار يقوده إلى مكان جلوسه ينتظر دوره لكي يدخل إلى الطبيب المختص. كان الرجل ذو الرقبة مشهوراً في المدينة، فقد كانت رقبته متحجرة إلى درجة أنه لا يستطيع إنزال رأسه إلى الأسفل. وكان أهل المدينة يكرهونه، فقد كانت مشيته في السوق تستفز المارّة، إذ يعتقدون أنه متخم بالغرور إلى الدرجة التي يرفع فيها رأسه بعلو وتفاخر. مع أن الرجل ذو الرقبة لم يكن مغروراً، ولم يستطع إقناع الناس في المدينة أن رقبته متحجرة، وأن عملية إنزال رأسه إلى المستوى الطبيعي كانت مهمة شاقة ومؤلمة .حتى أنه عانى كثيراً من تحجّر رقبته، لأنه لم يعد يحص عدد المرات التي سقط فيها في أفواه البلاليع، وصار يتجاهل تحرش المياه الآسنة على أطراف بنطاله. إما بالنسبة لأصدقائه، فلم تنمو في بستان عمره شتلة صداقة، يهجره أي صديق بعد أن يصيبه الملل والإرهاق وهو يقود رجلاً ذا رأس لم ير الأرض منذ سنوات. وهذا ما دفعه في التفكير بجدّية، في أن يجري عملية لرقبته لكي تعود طبيعية .يستطيع من خلال العملية الجراحية أن يكون إنساناً طبيعياً، يستطيع تلميع حذاءه بلا مساعدة، ويستطيع رؤية الصيادين على جرف النهر، وينتبه كي لا يتعثر بالنساء المتسولات الملتصقات بصمغ العوز على وجه الشارع. بالطبع تكون العمليات بهذا النوع مكلفات نوعاً ما، فهي تحتاج إلى مبلغ كبير من المال تم جمعه بمشقّة، وإلى تدخل جراحي عميق، في أصل الفقرات والعظام وتمزيق ما يعيق الرأس عن النّكْس.رنَّ جرس الطبيب، فأومأ المساعد للرجل ذي الرقبة بالدخول لكنه لم ينتبه. كان يحلم رافعاً رأسه قسراً، ولم يستطع الانتباه. هتف المساعد على الرجل ذي الرقبة، منبهاً أن دوره قد حان لملاقاة الطبيب. نهض بصعوبة مرتكزاً على فتات قوته، ثم توجه صوب الباب الأبيض اللدن .تلمّس بكفه مقبض الباب ودخل مسلماً على الطبيب، الذي لم يستطع الرجل ذو الرقبة تمييز ملامحه. بعد عبارات جاهزة من سلام بارد، عرف الطبيب علّة الرجل، ثم صار يفحص بدقّة أجزاء الرقبة ويحركها يمنة ويسرى، ثم سأل الطبيب الرجل ذا الرقبة عن تأريخ تصلب رقبته فأجاب الرجل (منذ زمن بعيد يا جناب الطبيب) ثم لحَّ الطبيب في معرفة التأريخ بشكل دقيق، مما دفع بالرجل ذي الرقبة إلى البوح (نعم يا جناب الطبيب...كما قلت لك منذ زمن بعيد، كنتُ شديد التعلق بالقمر الفضي..كنت أقف كل ليلة عند اكتماله وأغني، كنت مُغرماً به وأعشقه، بل كنت أبتكر قصص الحب فتيات لكي أهرول في المساء وأغني للقمر ..نعم يا جناب الطبيب.. ظل رأسي معلقاً منذ ذلك الزمن البعيد ).لم يستطع الرجل ذو الرقبة تمييز ملامح الطبيب، لكنه كان يسمع بشكل واضح صوته، ودفقات عنيفة من زفيره .كان الطبيب يتكلم بصوت متكسر مع الرجل ذي الرقبة، حتى أنه – المريض- أرتاح كثيراً للطبيب، فقد توقع أن الطبيب قد تعاطف معه إلى درجة كبيرة. حدَّد الطبيب موعداً للعملية، وأشار على مريضه بالراحة قبل العملية، ثم أن موعد العملية جاء ببطء .جرت العملية بسلام، ونجحت نجاحاً كبيراً. هذا ما أعلنه الطبيب وهو يتحدث في أذن الرجل ذي الرقبة، فقد كان ممدداً على سريره بعد تلاشي التخدير عن وعيه. شكر الرجل ذو الرقبة طبيبه، وصار ينثر على رأس طبيبه المديح والثناء، والطبيب يزفر بشدة كأنه مصاب بنوبة قلبية..!.ثم قرر الطبيب مغادرة الصالة لترك الرجل في وضع الراحة. أدار الرجل ذو الرقبة رأسه صوب الطبيب، أشتهى رؤية الشخص العبقري الذي خلّصه من جحيم حياته، بالرغم من الغواش في عينيه .لكن الرجل ذا الرقبة تأوه وتوسعت عيناه، وهو يطالع رجلاً قصيراً، يرتدي روباً أبيض، ويضع على صدره كارت التعريف الخاص بالأطباء، لملم أغراضه بصعوبة وخرج من الباب مهنئاً مرة أخرى مريضه على نجاح العملية. كان الطبيب ذا رقبة مقوسة للأسفل، وكان رأسه متدلياً كشتلة يابسة.

 

في نصوص اليوم