نصوص أدبية

إبراهيم أوحسين: ما لا تعرفه المعلمة

ibrahim ohseenلم يكن عبد الحميد يعلم أن السجن قصر من قصور موتى يتنفسون.. قدر من قضبان حديدية وجرذان بحجم الخراف. ومن كان قدره قصراً، لا يبحث عن أقدار أخرى..

فتح ألبوما- شغل الغبار نصفه-، وأخذ يدحرج ذكريات الحياة الأولى الخضراء.. حياة تحت الشمس..

ابتسامة هنا وضحكة هناك .. وشعار مانديلا- الذي قضى عشرة آلاف يوم وراء البنادق- كان سلوته.

رأى الصغير أباه، فأطلق ساقيه للريح نحوه، وارتمى وسط الألبوم، فقطع حبال خيالات أبيه، واندثر التاريخ الأبيض..

 - ماذا هناك بني ؟

- أريد أن ألعب معك يا أبي ..

- ماذا ؟؟ ألست تراني أتسلى بهذه الصور ؟؟

- إنها قبيحة المنظر يا أبي .. دعني ألونها لك بأقلامي الملونة..

ضحك عبد الحميد وقال :

- إنها أفضل هكذا.. إيه يا بني، ما أجمل السواد عندما يكون حرا ..

لكن الإبن أذعن لأسئلة الفطرة وفاجأ أباه قائلا :

- أبي .. أبي.. أحقا يعود الموتى إلى الحياة ؟؟

- قطعا لا يا بني .. ولمَ السؤال؟؟

 - ولماذا إذن كانت أمي تخبرني أنك ميت؟

تفقعت حمرة وجه عبد الحميد لما سمع سؤالا لم يسأل مثله من قبل . أطلق زفرة طويلة.. شخص نظره في سقف الغرفة، وأغلق الألبوم وقال :

- يا بني .. إن لله سنة في خلقه وحكمة ما بعدها حكمة، فالبشر وإن علا فكره وأدرك الحقائق وفك رموزها، فهو للحظة لم يملك إلا النزر القليل منها .. إنه عاجز أن يطال كل شيء، وأن يفهم كل غامض..

يا بني .. الحياة سر من أسرار هذا الكون الشاسع، سر عظيم تحوم حوله التساؤلات و الإجتهادات و أفكار هنا وهناك .. أخطأ من أخطأ،

وأصاب من أصاب .. أخطأ من قال أنها حياة واحدة لا تعقبها أخرى، وأصاب من قال إن الإنسان يعيش حيوات متعددة في لحظة واحدة ..

يا بني .. عندما أخبرتك أمك بموتي، كانت صادقة كل الصدق، فالبعيد عن العين، بعيد عن الحياة..

عظمك مازال طريا على هذه الأمور، ولن يكون سهلا أن أمرر لك كل شيء.. الحكمة في غير مكانها جهلٌ..

بدأ الإبن يقاوم النعاس، لكنه استطاع هزيمة أجفانه وقال :

- أبي.. أبي.. تقول المعلمة دائما أننا نعيش مرة واحدة، ثم نموت بعدها ..

- يا بني .. عندما يفتح أحدٌ عينيه ولا يجد أبا يلاعبه ويضمه، فلا بد أن يقبل أحد الأمرين، إما أنه ولد بغير أب، وإما أن يعزي نفسه على موت أبيه.. والأمر الثاني على الأرجح ما يُقبل عقلا ومنطقا ..

يا بني.. لم أشأ أن تفتح عينيك على نصف فراغ، بل وددت أن أكون أول من تلقي عليه ناظريك.. أول من تكحل به جفنيك، ولكن جرت الرياح بما لم تشتهيه سفني، فلم أكن بقدر حلمي وودي..

يا بني .. منا من يعيش حياة واحدة، ومنا من يعيش أكثر، فكان قدري أن أعيش حياتين.. حياة قبل الخطأ القضائي وحياة بعده، فكان الثمن إحدى عشرة سنة من الظلام واليأس والموت ... ولدت من جديد، وهذا

هو الأهم .. وهذا ما لا تعرفه المعلمة..

أخذ عبد الحميد وسادة ووضعها تحت خد ابنه المستسلم للنوم وللكلام الكبير الذي لم يفهم منه حرفا..

 

إبراهيم أوحسين

 

في نصوص اليوم