نصوص أدبية

شبنهاور ذو العِمَّة البيضاء

 ذاكَ أنَّ الوجهَ ياصاحبي

 من اختصاصِ إبليسَ

 حتى وإن كان قبلة الناسِ

 في الصَّلاة.

***

حين تنظرُ في كفيكَ جيِّداً

ترى وجهَ جبرئيلَ حاضراً

رغم أنَّ صداقتكما

كدَّرت صفوَها مراراً

 مشاكساتُ الفيلسوف

***

 

أنت لا تقدِّرُ إلا نفسَك

ومن حقِّك هذا

مادمتَ تبدعُ القامةَ الطويلةَ

 لأبي الطيِّب المتنبي ارتجالاً

فإذا ما سألك الناسُ بعد هذا

عن سبب كونِك لا ترى أحداً في الزحام

فقل لهم إني متوشِّحٌ نفسي دائماً

وقل لهم إنَّ نفسي يا سادتي

ليست كما تبصرونها هادئةً جدّاً

وليست هي شدو َحمامةٍ مشتاقةٍ بالطبع

بل هي ما لستُ أفهمُه تماماً

ما يعني في النهايةِ أنها

 مجرَّد صورةٍ أخرى

لعاصفةٍ تندلعُ في جمجمةِ الجحيم

***

 

لا حقيقةَ لكونِكَ متطفِّلاً

على الرمحِ في صدر الحسين

مع أنَّ الرمحَ لم يصبك

 إلا في موضعٍ لا تحسُّ به الألم

بداهةَ أنَّ ذلك الموضع

موجودٌ في قلبِ القلب

وفي روحِ الروحِ كذلك

وكلَّما كان القلبُ صوفيّاً أكثر

فإنَّه يتَّجه بسرعةٍ أكبر نحو تجاهل الكارثة.

 

هي تلك كربلاءاتُك الجديدة

أنا أحسن خطابَها جدّاً

وأشاكسُها كثيراً

وأنت تعرف علَّةَ ذلك

وحدك تعرف العلَّةَ في كوني

حين يدلهمُّ الخطابُ بالمغالطة

أفتحُ نافذةَ الثورة في فمي

لتجتاحَ العالم

فلو قيلَ مثلاً:

انَّك صديقي

واني مجرَّد حمارٍ جانبيٍّ

تقع على عاتقِهِ

مسؤوليَّة تحمُّل القسم الأكبر

 من السياط

فإني أتقبَّل هذا الوصف

وأرقص له بنشوةٍ كبيرةٍ جدّاً

لأنك صديقي طبعاً

ومع ذلك لا تهدأ نفسي

حتى أبصقَ في وجهِ من يعلنُ ذلك

 

لا تغضب على غضبي رجاءاً

فلم يبق من أصدقائي غيرك

يتقبَّلُني كما أنا بلا أيِّ شرطٍ

وحتى حين تهيِّء شرطاً في داخل نفسك

تعود فتنقضه سريعاً

بمجرَّد أن تبحث عن قبرٍ يجاورُ قبرَك

 

أنت تعتقد أنَّ القبر ليس مؤجَّلاً

كما انَّه لا يوجد  منفصلاً عن الكائن

ولهذا تراودك الفكرة دائماً

في أن ترسمني على لوحة خيالك قبراً

وتعانقني لا بيديكَ هاتينِ

لأنهما شاهدتانِ

على قبرٍ مجهولٍ ساعتئذٍ

بل تعانقني بقاع كيانك

لأنه قاع القبر بالضبط

 

ها أنتذا منتبذٌ مكاناً قصياً عن الناس ومبتعدٌ بمسافةٍ لم يبلغها الإنسان عن العالم

فهل رأيتَ المشهدَ كاملاً كما لو أنه فصلٌ من رواية الهذيان؟

ذاكرتي كذاكرتِك،

لم تعد تحتفظ بأسماء أمَّهات الكتب وعناوينِها.

ذاكرتي منطفئةٌ تماماً

فلن أوغل في سرد المأساة بسبب ذلك.

يقال إنَّ العالم موجودٌ رغم أنك لا تراه

ويقال إنَّ السادة السفسطائيين

أصدروا حكمهم عليك بالمروق

فهل حقّاً أنت خصم الكتابة

حين تقصد أن تفتِّت جسدَ العالم

وحين تعيده كما هو في الأصل جبلَ دخانٍ لا غير

 

هل تصدِّق ما أقول لك

إنَّ النوم ليس بهجةً بالنسبةِ لروحي كما هو لروحِك

هذا لا يعني أني متعلِّقٌ بأحلام يقظتي

فالنوم واليقظة كلاهما بالنسبةِ لي

عربةٌ فرَّ حصانها بها في عمق الرحلة

وبقيتُ من بعد ذا مجرَّداً حتى من الطريق

أمّا أنت

فالنوم بالنسبة لك راحةٌ

كما تقول لي مراراً

فلا تغيِّر رأيك سريعاً

كما انَّ بهجة اليقظة أحياناً تفاجئ روحَك

خاصَّةً عندما تصبح في موازاة نسيانك

فهل أقول إذن إنك لا تشبهني

أم تلجأ بصفتك فقيهاً إلى قواعد الجمع العرفيّ

فتزيل الفروق بيني وبينك

لكن بمنهجٍ أنا أعتبره قمَّة المفارقة

 

أعد شظايا نفسِك كما كانت في عالم الذرِّ كياناً واحداً

وتلذَّذ بأيام عمرك القصير هذا

فكل واشرب وأنجب المزيد من البنين

وتصفَّح في كلِّ يومٍ كتاباً

ليس بالضرورة أن تقرأه جميعاً

لأنك من السطر الأوَّل تحدسُ الخاتمة

فإذا فاجأك ضيفٌ لا يفهم عوالمك

فقل له تفضَّل بالجلوس

على أن تركلني بحذائك في جميع أنحاء جسمي

إلا مكاناً واحداً أعتبره ملاذاً

فلا تقرب منه وإلا حوَّلتك بوماً على أطلال أهلك

ذلك المكانُ الوحيدُ هو صمتي

 

سيان أن نكون صديقين أو لا نكون

فأنت تحنُّ إليَّ وأنا أحنُّ إليك

حتى في حالة أنك تعيش في عصر المغول

وأني موغلٌ في البعد جدّاً

حدَّ أني متَّهمٌ بتفخيخ البنتاغون

 

ربما أنت لا تعترف في سرِّك

بأني قادرٌ على إحراج الملا صدرا

والبرهنة على أنَّ ابن سينا

لم يكن سقّاءَ المعنى في عوالم التجريد

لكن هل توافق أن أسدي لك نصيحتي

بأن تنظر إلى نفسك في المرآة طويلاً

كي تعرف أنَّ لحية الوجه أحياناً

تعني أنَّ الإنسان منتصبٌ على شفرة المعنى

وإذ تسيلُ قدماهُ دماً

وتوغل الشفرةُ حتى تقطعَ في نخاع العظم

فإذا كان المرء ملتحياً

لم ينتبه إلى هذا

ومضى يحدِّث هادئاً عن الحور العين

وكيفيَّة الزواج بهنَّ بعد بعثرة العالم

فيخيَّل للناس أنه مقبلٌ على حفلةِ عرسٍ في المساء

حتى إذا ما حلَّ الليل مضى إلى قبره المحفور في عمق الذات

فاستلَّ منه أفعى كبيرةً

 وراح يمسِّد رأسها مثل ساحر

وهي تلتفُّ من العنق حتى الذيل حول خصره

حتى إذا ما بكى

توهَّجَ خيالُ الأفعى

فلدغته في رأس فؤاده لدغةً

ارتجَّت لها بوّابةُ السماء

  

دعكَ من حديث الماءِ والطوفان

وتحدَّث عن صحارانا التي التهبت ناراً

وما زلنا نواصلُ رحيلَنا

والغرابةُ أننا لا نحفظ من الأشعار

إلا ما يعبِّر عن ضيق أنفسنا بالشتاء

فإليك إذن أشكو أني أحترق

ولا أنتظر من شاعرٍ قطُّ

أن ينقذ جثَّتي من هذا العذاب

 

من كان جديراً سوانا بهذه الأرض

لو أنها فقط انتبهت إلى ما تحدِّث به العينان

الأرض تخشع لكن ليس أمام من يمحضها نبضَ العشق

عليك أن تفهم هذا

وتصمِّم على أساسه خارطةَ الموت

 

فإذا أكلتَ خبزَك

وشعرتَ بأنَّ فيهِ من عرَقِ جدِّكَ ملحاً

فالفظهُ

مخافةَ أن تقع فريسة النخوة  في رأس التراب

 

لا يكونُ الحلُّ صعباً لمعضلةِ الوطن

إلا حينَ تكونُ مصوِّباً عينيكَ تلقاءَ الحياة

على كوكبٍ يدورُ في فلكِ قلبِك

أمّا حينَ تشاهِدُ ظلَّكَ

فتشكُّ فيهِ حدَّ أن تراهُ

فتنحرفَ عنهُ رغبةَ أن يبتعدَ

فلا يكون الوطنُ معضلةً آنذاك

وربَّما بدا كمالو أنَّه صورةٌ منسيَّةٌ

لعاهرينِ تعرَّفا على نفسَيهِما في مبغى

 

أقلني أرجوكَ من حُبِّ أيِّ شيءٍ بعدَ الآن

فأنا أجوفُ حتى النهايةِ

وخالٍ تماماً من أيِّما فلسفةٍ

تحرِّضُ على الإستمرار

في تقبُّلِ خديعةِ الغريزةِ في صُلبِ الحياة

 

وحتى نفسي لا أستثنيها

من بُغضِ الأشياء

ليسَ بدافعِ تقليدِ المعرِّي

ولا بدافعِ أن أكونَ كشبنهاور

متمسِّكاً بالغرابةِ في عناقِ الفراغ

رغمَ أني أعترفُ بلا خجلٍ

بكوني أعيشُ على طريقتيهما

وأعاملُ الأشياءَ بسخريةٍ مستمدَّةٍ من ابتساماتِهما الذكيَّة

إذ يكونانِ في مقامِ السجالِ دفاعاً عن شعورِهما الكاذبِ بنعمةِ الوجود

بل بدافعِ أني انتبهتُ

ففوجئتُ بأني أعمى

وأنَّ بصيرتي لم تعد تسعفُني

في الرؤيةِ أو  في الإحساسِ برجفةِ الشفاه

حين يقرِّرَ قلبُ الفضاء

أن يهتزَّ من نشوةِ الحبّ

ولا تقل إنَّ الفضاءَ لا ينزِعُ نحوَ الحبِّ إلا نادراً

كأنَّكَ لا تعلمُ أنَّ الندرةَ في أوقاتِ الحبّ

شرطٌ أوَّليٌّ لتحوُّلِ كلِّ المجرّاتِ المرئيَّةِ واللامرئيَّة

إلى نقطةٍ تفلتُ من حسابِ المجهر

بين ذراعي حبيبٍ يتنهَّدُ من لوعةِ العشق

 

أنت تقسو على نفسِك كثيراً

وتؤنِّب أباك على ما أقدم عليه من تخصيب رحم حوّاءَ بك

وترفضُ مع هذا فلسفةَ التشاؤم

وتقولُ إنَّ الوجود نعمةٌ لا تنكر

لكني أمارسه بوصفه مخاطاً متكلِّساً في الأنف

وأشعر بالبهجة من كونه يشعُّ بالزرقة

كلَّما أفلحتُ في إخراجه من جوف الأنف بأظافري

وربَّما امتعض الآخرون من هذا المشهد

وما الضيرُ من هذا

ماداموا هم الجانب الأكثر روعةً من زرقةِ المخاط

  

هاتِ يديكَ لأقبِّلَهما

فأن تكونَ قطباً بالنسبةِ إلى هذا المريد

يعني أنَّه بلغ المرحلةَ القصوى

من اشمئزاز العارف

 

العارفُ الأكبرُ أنت

رغم أنَّك لا تعرفُ شيئاً

عمّا يدورُ في عالم الغيب

كما أنَّك متوثِّبٌ جداً لترقيع ثوبِك

بكلِّ السماء لتترك العالمَ هكذا

جثةً مقطوعةَ الرأسِ ليس إلا

لتبرهنَ لنفسِك

ولي طبعاً

أنَّ العالمَ في نظر ِالقطب

يمكنُ أن يفقدَ التوازنَ في لحظةٍ

فيتنقَّل في الأزقَّةِ نهاراً

وينام في جحر الضبِّ ليلاً

أمّا في وقتِ الغروب

فيمارسُ هوايته المفضَّلةَ بتكرارِ الإنتحار

 

لماذا لا تحسم الموقف من جهة صداقتي

فلا تصعِّرُ بين الحين والآخر وجهك

كلَّما أمعنتَ في توبيخ الكتاب

فقلت لك مهلاً

لا تصفع خدَّيهِ بقسوةٍ أمامي

لأنه كان يأخذ مكان المشيمةِ في بطن أمي

ولأنه كان وسادتي الأولى

حين ولدتني في ليلةٍ شاتيةٍ لم تكن ليلة القدر حتماً

لأنَّ كياني هذا

لا يصلح أن يكون مكافأة العابد

بيد أني أرجِّح كونها ليلةً بجناحَي نسرٍ

وبفكَّي نمرٍ مطعونٍ في الظهر

بداهةَ أنني الآن

أحمل صفاتهما كلَّما دهستني عبارةٌ صادمةٌ في الكتاب

وتصعِّرُ خدَّك لا أعرف لماذا

كلَّما قلتُ لك

إنَّ آدم كان عاقلاً جدّاً

إلى درجةِ أنه غوى ثمَّ تاب

 

لكنَّ صداقتك رغمَ هذا

أقدِّسُ ما فيها وأعتبرُه دليلاً

على أنَّ المرءَ

يمكن أن يمارسَ في سجنِ الكون

كلَّ طقوسِ الحريَّة

ولا يتذكَّرُ تلكَ الطامَّةَ الأولى

إذ قيلَ كن مسؤولاً عن عفافِ مأساتِك أيُّها الإنسان.

  

تذكَّر إذ كنتَ طفلاً

لم تكن تلعبُ على الإطلاق

وكنتَ تحدِّثُ نفسَك إذ تكبر

بأن تكتبَ كتاباً أوحديّاً حولَ الذات

فرآها تستقبلُ أفواجَ الأموات

ولم يكن أحدٌ مخلوقاً سواهُ

فاستغربَ ممّا رآهُ

وسألَ في خلوةٍ مع نفسِه

عن العلَّةِ في أنَّ التوابيتَ ممهورةٌ باسمِه

فصاحَ بأعلى الصوتِ لمن التوابيتُُُُُُُُُ

فجاءَه الجوابُ من مصدرِ النظامِ والشتات

أن انظر تحتَك

وإذ طأطأَ رأسَه قليلاً

جذبته رعشةُ الموتِ إلى التراب

وكانت ذاتَ لذَّةٍ كبرى بالفعل

فقيلَ هل ترفعُ رأسَكَ إلى أعلى

لم يجب حالاً

بل انتظرَ حتى امتدَّت أصابعُ رجلِه

نحو الأرضين السفلى

مثلَ جذورِ الأشجارِ الباسقة

وإذ رأى هذا يحدثُ أمامَ عينيهِ

انحنى نحوَ الترابِ أكثرَ فأكثرَ

حتى تماهى تماماً في رحلةِ المعراجِ إلى أسفل

ولم تكن حوّاءُ آنذاكَ تعلم

بحقيقةِ أنه سيموتُ غداً

فأرادت أن تختبرَ جسدَه

فوضعت عليهِ شيئاً من بُصاقِها فذاب

  

لو كانَ آدمُ شاعراً

لاستطاعَ أن يكتسبَ ودَّ حوّاءَ

دون اللجوءِ إلى رقَّةِ ملمسِ الثعبان

لكنَّه كان جادّاً وصارماً

وكانت حنجرتُه تتلألأُ لكن ليسَ من شدَّةِ الإنفعالِ بالمجاز

كانت تتلألأُ من فرطِ ما يشتهي الموت

وكان الموتُ غرغرةً في حنجرةِ آدم

حتى قبلَ أن يشاهِدَ أفواجَ الموتى

في جنَّةِ عدنٍ داخلَ التوابيت

ولهذا لم تلتحق بغرغرةِ حنجرتِه حوّاء

بل ظلَّت على حالها تتغرغرُ بالحياة

  

أنت رجلٌ من نسلِ آدم

مثل كلِّ الناس بلا اختلاف

لكنَّكَ يعجبُك كما أتوقَّع

أن تنامَ بعدَ الظهر

فتحلم بأنَّك انتقلتَ إلى الضفَّةِ الأخرى

من نهرِ المأساة

فتحفر في صدغيكَ وطناً

وتقلبه على يديكَ مراراً مثلما يفحصُ الرزَّ تاجرٌ

ثمَّ تنفخُ فيه بهمسٍ

ليحلِّقَ عالياً في الفضاء

وأنتَ تنظرُ إليهِ

فتشيرُ إلى جناحيهِ

وتصيحُ إنهما صدغايَ

طارا في غفلةٍ عني

ويصدِّقك الناسُ

لأنَّ صدغيك بعدما صارا جناحينِ

انقلب مزاجُ كيانِك كلِّه

فصار ما تحت قدميكَ

بمجرَّد أن تغادرَ المكان

حقلَ نساءٍ يستهوين الناس

ويجذبن قلوبهم إلى حيث الخديعة

فإذا هم يتوسَّلون بالصاعقات

أن يحلقنَ رؤوسَهم

علامةَ أنهم حجُّوا وذبحوا الهديَ

وأدُّوا مناسكهم كاملةً في أصداغهنَّ

وهنَّ بعدُ لم ينتهين من قبلاتهنَّ لبعضهنَّ

قبل التفرُّقِ في محاريبِ الشتات

 

 ............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1271 الثلاثاء 29/12/2009)

 

 

في نصوص اليوم