نصوص أدبية

سر الدعاء

لتتجنب التعليقات او النظرات التي بلا عبرات، لبست ثوب يصل الكاحل وغطت شعرها بالشال التي صارت تبله بالماء لتحمي رأسها من الحر. ولا بد ان تلبس نظارة شمسية لتحمي عينيها من وهج الشمس والغبار العالق بالهواء او الذي تنثره السيارات.

"اه..لو املك شجاعة الأمس واتغيب اليوم واستظل تحت شجرة في حديقة ما " كانت تتغيب من المدرسة حين تشعر برغبة في زيارة عمتها او احدى صديقاتها لاسيما التي لم تدخل المدرسة. كم كانت تحسدها على تلك الحرية! حرية البقاء في البيت، فعمل البيت صارت تشبهه اليوم بالاشغال الشاقة. فاين هي الحرية في ذلك.. لابد انه الاختناق الذي يسببه الحر. او هي كثرة المشاغل التي تحاصرها وتسلب منها بعض حريتها. البيت علت جدران حديقته على صغرها فصارت اشبه بزنزانة بلا سقف. الجيران يتجنبون بعضهم كما لو ان شبح الماضي القريب مازال يتربص بهم. الحمد لله على العمل رغم رتابته وسوء تعامل البعض لكنه المتنفس الوحيد للحرية التي تنشدها.

لا تتوقفي للتأمل .. تذكرت صديقاتها وبعض الزميلات.. هل لك اصدقاء؟ ابتسمت ساخرة ..هل ترين تلك الشجرة العملاقة – الصداقة – لقد تطايرت اوراقها كل مجموعة نثرتها ريح ما.. ريح الانانية مرة ورياح الغيرة مرات، او رياح (التغير) .. مسحت دمعة تسللت عبر النظارة السوداء.. الحمد لله لم يلحظها احد.

زاحمتها سيارات التاكسي وقد توقفوا طابورا طويلا لعلها تشير لأحدهم، وحين همت بتجاوزهم لتعبر للجانب الاخر من الشارع تذمروا وصاروا يعيقون عبورها. قرأت سورة الفاتحة متبوعة بدعائها "اللهم سهل لي دربي ويسر لي امري، واجعل في كلامي قبولا وفي وجهي حبورا، ولاقني بمن احب وما احب..امين".

 اخيرا بفضل الدعاء ربما، تمكنت من عبور الشارع! لتتجه لساحة صباح الخياط، لتركب الميني باص او الكيا كما يسمونها لتذهب لباب المعظم. في البداية كانت تظن ان صباح الخياط شخصية سياسية او وطنية، ثم عرفت انه مطرب شعبي يحيي بعض الافراح "الله..كم هم رائعين ان يسموا الساحة باسم مطرب حتى لو كان غير معروف!" ضحكوا منها  "الأمر غير ذلك، لقد كان له محل قرب الساحة سماه محل صباح الخياط، وصار علامة دالة للسواق والناس، وهكذا صار اسم الساحة باسمه..كما هو الحال في سوق شلال وسوق جمالة وغيرها من الاسماء الشعبية".

اذن كم هم مبدعين..فالدولة لم تحفل باطلاق اسم على الشوارع وحتى الارقام التي انعمت سابقتها على بعض الطرق، لم يحفل بها الناس فلابد من اسم تألفه الالسنة ويرضي النفس.

توقفت كيا فيها بعض الركاب "وين تروحين؟" سألها السائق. فقالت له لباب المعظم. فرحت وهو يشير لها ان تصعد .. "هذه اول مرة تقف سيارات باب المعظم هنا..الحمد لله هذا سيوفر علي مسير متعب للساحة وسط ضجيج السيارات، والارصفة المتعبة بين عالية واخرى واطئة مع مستوى الشارع او التي احتلها اصحاب المحلات ولم يدعوا بضع سنتيمترات للمشاة". قالت لنفسها وهي تصعد لتجلس قرب رجل تجاوز الخمسين، وهناك راكب بقرب السائق "لو كان لوحده ..السائق.. لما تجرأت بركوب سيارته..وقصص الخطف والسرقات تقشعر لها الابدان".

 اعطت السائق الاجرة (الف دينار) وقبل ان ترسم ابتسامة ساخرة وهي تتذكر ان الف دينار كان حلم حتى للاغنياء.. فقد باعوا بيتهم الجميل بغرف النوم الثلاثة مع الصالة ومطبخ وحديقة واسعة بأقل من الف دينار ليسددوا ثمن الرهن او القرض الذي اخذوه لتزويج عمها. اليوم ارخص اجرة للنقل الف دينار! انتبهت الى السائق وهو يسير في طريق خطأ  لم تعرفه من قبل. فتسائلت بقلق "الى اين..هذا ليس طريق باب المعظم".

" هذا طريق حي اور..قال احد الركاب"

"ماذا؟ لم قلت لي ان اصعد حين قلت اني ذاهبة لباب المعظم" لم يجب السائق فصاحت به غاضبة "نزلني هنا". توقفت السيارة واشار لها ان تنتظر لحين فتح الباب لأنه يستعصي احيانا! ثم استغربت لسؤال السائق ان تساعده بمسك اطار الباب ليتمكن من فتحه! وفعلت ما طلبه منها وقد انتابها خوف حقيقي لو ان الباب لم يفتح! ماذا ستفعل؟

الركاب لم يبدو على اي منهم استنكار امر عدم فتح الباب! بل احدهم اعتذر ان يساعد السائق ذلك مدعيا اجراء عملية لكتفه، كان واضح كذبه. فعلت ما أشار به السائق وحال فتح الباب لمحت بيده لمعان الميدالية الذهبية التي اهدتها اياها اختها قبل عام. فصاحت به قبل ان تنزل "ماهذا؟ الا تخجل من نفسك..اعكني ماسرقته بالحال..اي سفالة هذه" اعطى السائق الميدالية للراكب ليسلمها لها وسط صمت الاخرين المريب! وكأن الامر بسيطا كما لو هو بقية الاجرة اعادها لها. فسارعت بالنزول وهي ترتجف غضبا اكثر منه خوفا وهددته ان تخبر الشرطة. فما كان منه الا ان يسرع هاربا دون ان تنظر لرقم السيارة فمعظم السيارات بلا رقم!

وضعت الميدالية والسلسلة المقطوعة في حقيبتها وهي تستعيد المشهد! لم لم يحتج اي من الركاب على سلوك السائق! كما يفعلون عادة، او كانوا؟ هل هم متفقين معه! على ماذا ان يسرقوا ميدالية ثمنها الوحيد انها هدية من عزيز عليها! بل هم غير متأكدين اذا كانت ذهب او لا! ربما هي تجربة واختبار سرعته بالسرقة وخفة يده؟ لابد ان الامر كذلك وقد تلاشت القيم والشيمة وديست بالاقدام مع الوحل والقاذورات التي انتشرت..ربما هم يخططون لإختطاف نساء مثلي لا ينتابهن الشك بنوايا الاخر! او الاطفال او حتى الرجال المساكين! اي رخص وصلوا له؟

رمت نفسها بسيارة اخرى..لم يخطر ببالها ان تأخذ تاكسي فغلاء التاكسيات جعلها تصر اليوم على مواصلة الطريق بالميني باص(الكيا).. كانت منفعلة وقد خشب الغضب ملامحها. فانفجرت بالسائق الاخر وهو يغير الاتجاه ويبعدها عن مقصدها اكثر فصرخت به  "نازل..تغيرون الاتجاه كما يحلو لكم.. وحسب المزاج.. طبعا تعلمتم منذ ايام المشعول ان لا تسيرون الا بالعصا والخوف.. بدونها (تنجلبون) ..اللعنة عليكم جميعا ياجبناء" ونزلت وقد احمر وجهها وهي ترتعش غضبا. كما لو ارادت ان تنتقم من السائق الاخر او ترد اعتبارها لنفسها. فلا تدري ما كان يجب عليها فعله لتلقن السارق ذاك درسا! دون ان يخطر ببالها ان السائق هذا قد يكون احمق ومتهور وقد ينزل ليضربها. ماذا ستفعل حينها؟ حمدت الله انه لم يفعل وانطلق شاتما ساخطا، لم تسمع شتائمه .

سارت ما تبقى من الطريق من الجامعة المستنصرية لأكاديمية الفنون. المسير قد ياخذ اكثر من ساعة ..لكن افضل من ركوب السيارات وهي ملغومة بما يجعلك تحمد الله لو وصلت قطعة واحدة.. بفضل دعائها اعادوا لها الميدالية ولم يخطفوها، وبفضل الدعاء لم ينزل السائق الاخر ليرد على شتائمها باحسن منها! وبفضل الدعاء مازالت قوية لتسير مثل تلك المسافة.

كانت فخورة بنفسها وبنجاتها حين حكت لزوجها ما حصل لها وقد زايلها ذلك الغضب والقهر والخوف..بل صحبت كلماتها ضحك وسخرية ..ولكنه حرم عليها تخطي عتبة الباب وان تترك العمل وحتى السوق سيتكلف هو بالمهمة ..

 

ابتسام يوسف الطاهر - بغداد

 2012

 

 

في نصوص اليوم