نصوص أدبية

الصياد

بعواء ذئب خُتِمَتْ آيةُ الليل، وآية الصباح بدأت بصياح ديك.. فإذا الضوء المندلق من جَرَّةِ المشرقِ، ينضو الثوب  الأسود عن جسد البادية، ليلبسها ثوباً أبيض كوبر ناقة وضحاء، وإذا السماء تنسكب بمرآة الفيضة، وبيوتُ الشَعْرِ الهاجعة تُبْعَثُ ثانية للحياة.. الغبش المتشبث بأذيال عباءة الليل يفلتها، فتمزقها أنصال الصبح، الشمس ناقة شقراء تقضم ظلال البر الشاسع، فينكشف الأفق قدام الأبصار. صيحة الديك يا سيدة القصور، كأنها نفخة في الصور، وكأنما حلَّ في كائنات مرايا الرمال النشور.. الوكنات تطلق الطيور، السماء تَستقبل الصقور، الأجمات تُخرج الظباء، الحظائر تُحرر الماشية، المراعي تُضَيّف الرعاة، الكلاب تهز الذيول، تشم الأرض، تتبع الأثر، نسيم الصباح يهز أرجوحة القطا، سُرب يحلقُ وسُرب يحط، الرمال تعفر مرآة الصحراء، العشب يرسم طريقاً إلى الماء، الآبار تستقبل الدلاء، الشجيرات تنهض للضياء، الأزهار تميل إلى الشرق، الأوجار تأوي الضباع، الكهوف تخفي الذئاب، الجحور تلفظ الزواحف، النمل ينوء ببضاعته، النسور تحلق فوق الأفاعي، الأفاعي تنساب خلف اليرابيع، اليرابيع تلبد في حفر كالمتاهات، الأرانب تستطلع على قائمتين، الثعالب كامنة في الجوار، الشجيرات تنفض البرد عن عباءاتها، السحالي تلحس الندى عن جلود الحصى، تتسلق الجلاميد، تعرض دروعها لعين المُشْرِقْ. أصابع الأفق يمشطن شعر الشقراء الجالسة على عرشها، ويخلينه يسرح على أكتاف سفوح التلال.. وكعادتها في كل صباح، تنهض البادية. صياح رعاة، رغاء جِمال، ثغاء شياه، صهيل أحصنة، نهيق حمير، نباح كلاب.. هكذا هي يا سيدتي طلة الصباح على البادية، الشمس هنا تطلع سافرة لا كشمس المدينة التي تختلس النظر من وراء حجاب.. أنظري إليها كيف تسير على أصابعها حذراً كي لا تخدش ظل الخيام. تطرق بالضوء جفون بنات حواء، فينهضن، لتخلو من دفئهن أحضان أبناء آدم، فينهضوا، والوجوه ما تزال تصطبغ بالانتشاء، والمسامات تنز بعرق لهاث ليل مضى، ورائحة الحب كامنة في الثياب، وتحت الثياب أسرار تأوه، ودفء أنفاس، وتعب اصطراع، توهج وانطفاء، لذة وانتشاء.. والنساء بعد همس ولمس وآه. ينهضن ثقالاً، تاركات في ثنايا الألحفة رائحة أسرار الليل.. والرجال ينهضون خفافاً بعدما دلقوا دلاء  نواعيرهم في سواقي النساء.. الفيضة هي هكذا في الصباح. العبيد لإضرام النار، الرعاة لسوق القطعان، النساء لإعداد الفطور، الرجال لاحتساء القهوة، الأطفال إلى رحبة اللعب.. الدلال تُدار، الفناجين تُملأ، اللفائف تُلف. أفاع الدخان تنساب الى سقوف الخيام.. يا سيدة حكايات الليل، هكذا يعلن الصباح عن نفسه ليستهل يوماً بدوياً جديداً يلحقه بقافلة عمر الصحراء.. وأنا المرواتي الذي تعودتي أن تجيئي الى خيمته كل صباح، ليفطر سمعك بحكاية جديدة، أستهلها فأقول: بلغني أيتها الراوية السعيدة، أن رجلاً حضرياً كان يجوب بسيارته بادية السماوة العتيدة.. سأترك ــ لو سمحت ــ راوي الحكاية يروي حكايته، فأنا مهما بلغت من التمكن من زمام الحكاية ــ وأنت خير مَنْ تعرفين ــ أعجز عن  نفخ روح مَنْ عاشها.. ها هو ــ كما أراه ــ يتربع في صدارة خيمة الذاكرة.. سأطوي لساني وأصمت، فتهيئي فقد تُرعبين بهذي الحكاية.. ها، أرأيته وهو يستعد ليحكي حكايته التي جعلتْ الآخرين يفسحون له في المجالس، ويجلونه لبئر حكاياته الذي لا يُغَوَّرُ. لا تغمزي لي بطرف عينك. أدري، أقسم بالله ومحمد رسول الله.. أدري أنَّ علي السكوت عن الكلام المباح، ما دمنا في حضرة هذا الصباح، إذن سأسكت أنا، واسكتي أنت  لنكون كلينا من رهط سامعي حكاية السائق التي يستهلها عادة بذكر الله ورسوله، ثم يعتذر من السامعين: صبراً عليَّ ريثما أُنهي لف لفافتي وأجهز على فنجان قهوتي، فالحكاية التي سأحكيها لكم الآن حدثت ذات ربيع من رباع سنين الخير، التي أعقبت سنين القحط، التي أهلكتْ الزرع والضرع، وأقسم أني كلما مررت بمكان حدوثها بعد مرور قوافل كل هذي السنين التي أوهنت العظم مني، تذكرتها فعقد الخوف رجليَّ.. أنتم تدرون أني كنت في شبابي أجوب البادية بسيارتي (على باب الله ) وقد قادني اعتلال الشمس إلى بيت شَعْرٍ لرجل صياد ذئاب..  طلع عليَّ من عتمة الخيمة طلوع قمر الرابع عشر بجمال وجهه المؤطر بلحية بيضاء زادت الرجل جمالاً ووقاراً.. انبهرت به قبل أن تمتلئ عيناي بدرقة صدره، ورمح قامته، ولبدة شعره، التي جمعت بين الليل والنهار.. رحب بي، ناولني كيس التبغ، وسقاني من قهوته المهيلة.. كنت منشغلاً بجماله وهو يطل على أهله من فوق شك الخيمة يوجههم لتحضير طعام العشاء، حتى إذا جلس قبالتي في فيض ضوء الفانوس.. استحضرتْ ذاكرتي صورة قديس جميل رأيتها ذات غروب ملصقة على جدار حجرة طينٍ كانت بمثابة مقهى تقع على المفرقٍ بين سين السماوة، وصاد الصحراء.. ما علينا، أنتم تدرون أن الحكاية ملحُ  الليل، وأنا رجل حكاء لا تكاد الحكاية عندي تنتهي إلا وتبعتها أُختها، لكني في تلك الليلة التي نزلتُ فيها ضيفاً عند ذلك الصياد الجميل الذي زاده الخالق بسطة في الجسم، ونصاعة بالوجه، وغرة شهباء.. توقفت عن سرد الحكايات، حين انتصبتْ سبابته متوسطة شفتيه مشيراً عليَّ بالصمت والاستماع إلى حكايته المخيفة المرعبة التي كانت عن ذئب أسود متوحش، ذكي، حذر،  خطر.. استهل الرجل حكايته تلك كالمعتاد في حكاياتنا كافة بمقدمة عرفت منها أن الحكاية تدور حور الذئاب التي وصفها برغم شراستها بالجمال، قال: أنت تعرف أن الذئاب رغم شراستها جميلة، وهي من أدهى و أذكى حيوانات الصحراء المتوحشة وأمهرها في صيد طرائدها.. هكذا عرفناها مذ فتحنا أعيننا على هذا الأفق الرملي، وهي تهاجمنا في مجموعات يتقدمها من هو أكثر قوة وشراسة وخبرة تؤهله لقيادة القطيع، ومحدثك رجل من عائلة نبتت خبرة صيد الذئاب في أصلابها فتوارثتها أباً عن جد، وقد استوت خبرتي واستغلظت بعد أن اصطدت أشرس ذئاب الصحراء، يشهد لي فراءها الذي أحتفظ به، إلا أني عجزت عن اصطياد ذئب أراه كلما أغمضت عينيَّ.. إذا جَنَّ الليل عسعس الذئب كما تعرف، وذئبي الذي أحكي عنه إذا مَلَّ الطواف أتى إليَّ ليربض بين أجفاني، ذئب أسود شرس وحيد نفر عن قطيعه. يزن حوالي ثمانين كيلوغراماً، وطوله بحسب تقديري يقارب المترين، يقف قدامي، يضرب الأرض بذيلٍ طوله نصف متر، ثم يختفي في كل مرة أصوب بها بندقيتي لأرديه.. يكمن في مغارة كائنة في سلسلة تلال تحيط بغابة سدر صحراوي لا يخرج منها إلا إذا اصطبغ الأفق بالأحمر القاني ولا يعود إلا بفريسة من البشر.. استفز الرجل حواسي وجعل الدم ينط في عروقي، كان يصف ذئباً مشهوراً يُعرف بذئب اللهب.. سألته إنْ كان قد زار منطقة اللهب أو سمع بها، فأجابني أنه لم يزرها أو يسمع بها.. اتسعت دهشتي حتى ناشت الأفق المعتم، فالرجل كان يتحدث عن ذئبٍ أستوحش في منطقة اللهب التي كانت في زمن الحكاية غابة سدر كثيف يضيع فيها الخَيّال، وكانت كهوفها مؤلاً للضواري المستوحشة المرعبة، تلك هي لهب الأمس التي لم تروها، لا لهب اليوم  المكشوفة صلعتها لعيون السماء ــ ما علينا ــ عدت أسأله وأنا ما أزال متسربلاً بدهشتي. إذا كان لم يسبق له الذهاب إلى منطقة اللهب، فكيف رأى ذلك الذئب الذي وصفه وصفاً دقيقاً؟ فأجابني بمنتهى الهدوء أنه لم يذهب إلى منطقة ذلك الذئب.. الذئب هو الذي يأتي إلى خيمة أجفانه كلما داهمته خيول المنام.. عندما أنهى الرجل حكايته، كانت خيول الوسن قد دهمت أجفانه، واختفت هالة ضوء الفانوس، كأنما حطت عليه حَدْأْة سوداء، حتى إذا لفضت ذبالته آخر أنفاسها، صرت أبصر مضيفي كشبح تحيط برأسه هالة ضوء شاحبة من صنع ما تبقى من نار الموقد، ثم اختفى عن نظري، واختفيت عن نظره، حين خمد الموقد.. لكني كنت أشعر بوجوده في مطرحه بعد أن  أطارت حكايته النوم من عيني رغم تعب نهار كامل قضيته في قيادة السيارة.. كان الليل يسيل ببطء على مرآة الصحراء. فكرت بتدخين لفافة، مددت يدي أتلمس كيس التبغ، لكني ما أن قبضت عليه حتى تركته يسقط من يدي أثر صرخة انطلقت من مضيفي الذي استيقظ مرعوباً.. نَفختُ الروح بالفانوس، وهرعتُ إليه لأسقيه الماء، شرب جرعة وأردفها بأخرى، ثم سمعته يقول: ما أن غزت قافلة نمال النوم أجفاني حتى تصدى لي ذلك الذئب الأسود المرعب.. طمأنته: ما دامت الكلاب صامتة فلا ذئب في الجوار، وأردفت: سأترك الفانوس مضاء. تَلَفَّظَ بكلمات لا أتذكرها الآن ثم سقط رأسه على الوسادة، فعدت إلى مطرحي.. قبل أن ترفع يد الشمس نقاب الليل عن وجه البادية، كان مضيفي قد أذكى النار في الموقد، فأيقظتني رائحة القهوة ولما أنام.. خرجت إلى الخلاء المتلفع بعباءة الغبش. أفرغت ما في مثانتي وأمعائي. دعكت مؤخرتي بالرمل، ثم مسحت وجهي وعفرت ذراعيَّ بصعيد طيب، انتصبت بحذاء رواك بيت الشَعْرِ ووليت وجهي نحو بيت الله، حين انتهيت من صلاة الفجر. هرول نحوي جرو جميل، ظل يقفز حولي محاولاً عضَّ عباءتي.. في الخيمة كان مضيفي قد أحضر (الكدوع1) بعد أن امتلأت معدتي بالطعام، وامتلأ صدري بالدخان، تفقدت السيارة وعزمت على مبارحة المكان.. فاجأني الصياد بطلب التريث، أخبرني أن صرخته من كابوس الذئب الذي كان بطل حكاية الليلة البارحة، لم تكن خوفاً من ذلك الذئب الشرس، بل كانت تعبيراً عن الانتصار، حين سقط الذئب على بعد قامة رجل بعدما فتحت رصاصته عيناً ثالثة بين عيني الذئب. صعد إلى السيارة، قال: خذني إلى منطقة اللهب.. أجبته معتذراً: إنها تبعد عن أوتاد خيمتك مسافة ما بين الضحى والعصر. وأن الطريق إليها وعرة، فرشتها البراكين منذ آلاف السنين بالحجارة المحروقة ولذا سميت باللهب، وذكرتُ لأُثنيه عن عزمه، التلال وصعودها والشعاب ونزولها. لكنه كان عازماً على الذهاب ومصمماً على قتل ذئب منطقة اللهب:  سأزرع رصاصة بين عينيه، سأقتله في اليقظة كما قتلته في المنام.. حين دب الدفء في سجاجيد العشب التي نسجتها يد الربيع. كنا والشمس ثالثنا نقطع الطريق إلى تلال منطقة اللهب، وطوال الطريق كان الرجل الجميل يحدثني عن عدد الذئاب التي أين وكيف قَتَلْ، وكنت أسمعه والشمس تسمعه وهي ظاعنة في هودج المشرق تروم المغرب تطلبه حثيثا، حتى إذا بركت ناقتها الوضحاء في واحة العصر، لاحت لأعيننا تلال اللهب.. دخلنا في غابة السدر، أوقفت سيارتي تحت لبدة سدرة، ونزلت والصياد الجميل ما يزال يحدثني عن الذئاب وطباعها، ثم قطع حديثه وتقدمني نحو التلال فتبعته، أشار إليَّ أن قف في مكانك، وراح يفكر وهو يجس كهوف التلال بنظرات الصياد المتمرس، وكأنه تذكر كهف كوابيس لياليه، فأشار إليه وأشار إليّ، فهت قصده فأسندت ظهري إلى جذع سدرة معرشة واختفيت عن النظر.. عاد إليَّ وراح يحذرني بصوت خفيض. أبق هنا، هذا مكان غير مكشوف، والريح تهب من التلال باتجاه السدر فلا تصل رائحتك إلى الذئب، ركز نظرك على ذلك الكهف وانتبه لأية حركة، إذا رأيت الذئب ولم يهاجمك أبق في مكانك، أما إذا هاجمك فاركض بكل القوة التي تسعفك بها رجلاك واعتصم بسيارتك، أركض بشكل دائري ولا تركض بشكل مستقيم، ، فالدوران السريع يتعب الذئب. عموده الفقري المتصل برقبته لا يسمح له بالالتفات، فيضطر إلى التوقف. عندها يمكنك اللجوء إلى سيارتك، أطلق العنان للمنبه، ذلك سيرهب الذئب فيضطر إلى  النكوص والعودة إلى وجره حيث سيجدني بانتظاره، قلت: أنا لست خائف فسيارتي قريبة، إنما أنا قلق عليك.. افتر ثغره عن ابتسامة تليق بوجهه الجميل: لا تقلق أنا أعرف هذا الذئب كما أعرف نفسي. سأهديك فروته.. تركني بعد أن أنهى إرشاداته ومضى باتجاه وجر الذئب الكائن في كهف كوابيسه، وسمعته يقول سأكمن له على بعد رصاصة، وكنت أراه وهو يتقدم بخطوات الصياد الواثق من نفسه، ثم فقدته حين انحرف باتجاه المغرب ودخل في فيضة السدر المجاورة للمغارة.. ساعة زمان قضيتها وأنا في حالة ترقب وانتظار، حين رأيت سحابة غبار تعلو من أسفل التل حيث تتشابك أشجار السدر، صرخت يا ويلي، ثم فقدت قدرتي على الكلام، ولم تصدر مني سوى همهمة غير مفهومة.. كان الذئب يسحب جثة، أقسم انها جثة رجل، حتى إذا وصل إلى باب مغارته دفع يديه تحت أبطي الجثة، رفعها وأوقفها قبالته محتضناً إياها وهو يقف على قائمتيه الخلفيتين. كان فرو ظهره الأسود يحجب الجثة عن عينيّ، شل الخوف يديَّ ولم استطع إيقاف ارتجافَ رجليَّ حين بدأ الذئب بدفع الجثة إلى داخل المغارة، وفي اللحظة التي أمالها فيها ليسحبها إلى الداخل.. في تلك اللحظة المرعبة،  ضوء المغيب الشاحب، أمكنني  من رؤية الذئب وقد غرز أنيابه في عنق القديس الذي رأيته ذات غروب في الصورة  المعلقة على جدار المقهى الفاصل بين سين السماوة وصاد الصحراء  

 

قصة

حامد فاضل 

 

 

 

 

 

 

في نصوص اليوم