نصوص أدبية

الزانية

منذ قرابة الشهرين و خديجة تحتكر مصروفها كي تشتري كمبيوتر محمول فوالدها يقولان بأن هناك أشياء أهم بكثير من الحاسوب عليهما شراؤها حاليا و اليوم تعود للبيت تغمرها نشوة الفرح والإنتصار وهي ترى بأنها تميزت على صديقاتها و جاراتها فمن الصعب أن تمتلك فتاة لم تبلغ العشرين في حي شعبي حاسوب محمول. في الحافلة التي تعج بالركاب و أصواتهم المتضاربة تمعن خديجة النظر في ذلك الكيس الذي يحمل هدفا حققته بأن حرمت نفسها حتى من شراء ملاس العيد الفارط وتقول في نفسها:"لقد تغلبت عليكما و اشتريته لنفسي وأنا لا أستغرب أنكما أردتما حرماني منه أو من شيء آخر فمنذ الطفولة أعلم انكما والدان غريبان و لم أرى فيكما تلك الصفات التي تكررها الأغاني و القصائد في حب الوالدين، مبارك علي انتصاري ولتغاري مني يا أمي ولتذهب للجحيم يا أبي".

اجتمع الواللدان و أختها حولها فرحين بإنجاز خديجة الذي أوحى لهما بأنها نضجت و أصبح بإمكانها تدبير أمورها وهي برمقهم بنظرة الإستعلاء و الفخر وكأنها محارب قد قضى على الفارس الأسود الذي لم يصارع أحد من قبل إلا وقتله.

الساعة تشير إلى الثالثة صباحا و خديجة تتجول بكل حرية في حائط الفايسبوك و تكلم أصدقائها و صديقاتها و تخبر الجميع بأنه صار بإمكانها الإتصال طول الوقت وبإمكانهم التحدث على الشبكة دائما. وخصت بذلك صديقتها "إيزابيلا" السويدية التي أصبحت توأمها ومخبأ أسرارها وقد كان سبب تعارفهما تبادل المعرفة لغويا أي أن البنتان كانتا تريدان تطوير اللغة الإنجليزية لهما فتطور ذلك إلى أن أصبحتا صديقتان لا يمر يوم إلا و تتحادثان على الفايسبوك. يبدأ الحوار بأن أرسلت خديجة لصاحبتها رسالة مفادها أنها ستخبرها بمفاجئة وهي تتذكر أنها لم ترسل لها صورها قط لأن ذلك عيب و حرام ويجب على الغرباء أن يرونها فقط الحجاب و من العيب أن ترسل صورها للغرباء ولكن فرح خديجة تلك الليلة جعلها تخبر صديقتها بأنها سترها الليلة ومن ثم اتصلت بها باستعمال تقنية مكالمات الفيديو وأمضيا الليلة يتكلمان بكل فصاحة باللغة الإنجليزية و خديجة تخبرها بأنها قد رسبت في بعض المواد وهي في عامها الأول في الجامعة وإيزابيلا تقدم لها نصائح تساعدها على تخطي ذلك وتحقيق نتائج أعلى وبينما الحوار قائم و تتخلله كل حين بعض الضحكات العفوية إذ رأت خديجة أب إيزابيلا و أمها يتبادلان القبل من خلفها فأنهت الإتصال على الفور. تتصل بها إيزابيلا فلا تجيب و في المرة الثانية أجابت و كلها خجل ووجنتيها احمرتا حتى تخالهما أصيبا بسقم وتسألها إيزابيلا بكل حيرة: لماذا أنهيت الإتصال و لم تجيبي؟ هل فعلت شيئا خاطئا؟ أنا أعتذر إن قمت بشيء ما رغم أنني أعلم أنني لم أخطئ. تجيب خديجة بأنها قد رأت مشهد أحرجها جدا و ذلك ما جعلها تنهي الإتصال تحتار إيزابيلا فتكمل خديجة الكلام قائلة: في العادة حينما نجتمع في بيتنا لنشاهد فلم ما –وذلك نادر الحدوث- ويأتي مشهد مخل بالآداب كأن يقب رجل امرأة –تقول ذلك و هي تنظر للأسفل وعليها بوادر الخجل- نقوم إثر ذلك بالخروج من الغرفة أنا و أختي و يير أبي القناة فورا أو يقوم بإطفاء التلفاز و تتظاهر امي بأنها تقوم بشيء ما غير مشاهدة التلفاز في تلك اللحظة.

وبينما خديجة تخبر صديقتها بذلك فإيزابيلا قد فتحت فمها بكل دهشة و لم تقل شيئا و حين أكملت خديجة سرد تلك الحادثة انفجرت إيزابيلا ضحكا ثم أنشأت تقول: لماذا ترون بأن ذلك أمر محرج؟ ثم لماذا تتحاشون حتى الحديث عنه؟ إن القبلة هي تعبير عن الحب فحين تقبل أحدهم فأنت تقول له انا أحبك بلغة أخرى فقط. إن القبلة وسيلة تواصل و لغة لا يتقنها إلا من ملء قلبه بالحب و النور ثم إن الزواج يبدأ بقبلة و أول ما نفعله لمن يلد أن نقبله و نحن نعبر عن حبنا للأطفال الصغار بالتقبيل و حين يبكي طفل ترضيه أمه بقبلة. أترين في القبلة حرج بعد هذا؟

خديجة كانت تستمع لتلك الكلمات بكل لذة و هي تداعب خصلة شعرها و مال خدها على كفها وحين رأتها إيزابيلا كذلك أكملت: إن العاشق قد يضحي بكل ما يملك وبحياته كي ينال قبلته الأولى من محبوبته. تتذكر خديجة حبيبها الذي لم تخبر عنه أحد حتى إيزابيلا فهو يقول بأنه صديقها لمقرب وهي تقول ذلك أيضا ولكن الليل لا يمضي دون أن تتذكره وتتذكر كلماته ونظراتها و كل التفاصيل التي تحيط به بل أنها انزعجت من نفسها لأنها لم تعد تتقبل ان يحادث فتاة غيرها لأن الغيرةتنساب إليها و تهاجمها لتذهب وتقطع ذلك الحديث كي تظفر به لوحدها.

على طاولة الغداء تقول خديجة بأنها تريد أن تعزم صديقاتها و أصدقائها لوجبة عشاء لأنهم قد كانوا سندا لها في بحث لم تستطع إكماله لوحدها في الجامعة ففرح الوالدان بذلك لأنهما يران في ذلك تقدم ملحوظ في نضجها و اتفقا على أن تكون عطلة نهاية الأسبوع هي موعد العزيمة.

على طاولة العشاء و الحديث يدور عن السياسة بين الطلبة و الوالدين ينتاب خديجة شعور بان الزمن يتوقف وكأنها تخرج من ذاتها و تباطئ الزمن في عينيها وكأن كل شيئ توقف ولا أحد غيرها يستطيع الملاحظة فترمق الكؤوس على الطاولة و كأنهم يتحادثون أيضا ورذاذ العطر ينتقل من جلدها لأنف عشيقها في رسائل مشفرة وبأحرف لا يستطيع اباها أن يقرأها فتناديها أمها لتخرجها من ذوبانها وخشوعها و اندماجها في ذاتها فتقول بأن عليها مصاحبة أصدقائها في جولة منزلية تحكي لهم فيها عن القصص التي تجسدها الصور المعلقة على الجدران و التحف الفنية الموروثة و الصبغة الجديدة لغرفتها و خاصة أن عليها أن تريهم حاسوبها المحمول.

تنتشر الأصوات و الضحكات في المنزل و البهجة قد سكنت كل الجدران حتى التي تحجرت فيها دموع خديجة في الليالي الحالكات أمست و كأن لها وجنتين و قد أبرقتا. تقف خديجة و إحدى صديقاتها أمام صورة لجدها أخذها مع جثة أسد بعدما صرعه و تبدو عليها ملامح الفخر و هي تحدثها عن أمجماد جدها و شجاعته  والكرم الذي امتاز به حتى يباغتها عشيقها بقبلة فتلتفت له و يحضر في ذاكرتها مشهد والدا ايزابيل الذي رأته بعيناها فتلتفت له بكل أنوثة تمسكه يد في لحيته الخفيفة و أخرى في عنقه وكأنها ليست القبلة الأولى و تفرغ فيه كبت عشرون سنة لتشعر في لحظة أنها امرأة وناضجة و أنها مهمة و هناك من يتمنى منها التفاته فتشعر بأن شعرها يشد للخلف بقوة تفتح عينيها فتجد والدها هو من يمسك بها و يشرع في ضربها وكأنه يضرب ثور هائج بلا رحمة و يسبها بأقبح الألقاب ثم يتركها ليحمل كرسيها و يرمي به عشيقها الذي يهرب خائفا فيخرج جميع أصدقاءها من المنزل وكل يهرع وفي قلبه حيرة و خوف و شفقة على خديجة التي خضعت لقرار والدها و هو القرار الشرعي و الذي عادة ما يقوم به أجدادها و كما يقول الدين فخديجة يجب أن ترجم حتى الموت.

ترفع رأسها لترى الحجر الأخير يتقدم نحوها فتقول: يا ليتني كنت إيزابيل.

 

للكاتب بورزق ضياء الدين

 

في نصوص اليوم