نصوص أدبية
قفا نبكي..
الحُبُّ يَعْلُو شِغَافَ القَلْبِ يَحْرِسُهُ
وآفَةُ الصَّبِّ فِيْـهَا القُـوْلُ يَنْشَغِلُ
قفا نبكي.. / مالك الواسطي
أَنَا العِرَاقِيُّ في الآفَاقِ مُرْتَحِلُ
لله أَشْكُو فَقَدْ ضَاقَتْ بِي الحِيَلُ
عَرْيَانُ مِـنْ صُحْبَةٍ أَهْلِي مَجَالِسُهَا
ومِنْ صِحَابٍ بِهِمْ عَيْنَايَ تَكْتَحِلُ
بِالأَمْسِ كُنْتُ خَلِيْلَ الصُّبْحِ طَلْعَتَهُ
وَاليَوْمَ أَصْـغِي لِدَمْعِي وَهْـوَ يَنْهَمِلُ
أَمْشِي وفي القَلْبِ تَلْكَ الدَّارُ شَاخِصَةٌ
غَبْرَاءُ قَـدْ هَـدَّهَا في بُعْدِنَا الكَلَلُ
تَرْمِي بِنَاظِرِهَا بُعْدَ الـطَّرِيْقِ وَلَـمْ
تُخْفِ عَنِ القَلْبِ مَا بَاحَتْ بِهِ المُقَلُ
مَا أَبْصَرَتْ غَيْرَ حُـزْنٍ في تَرَيُّثِهَا
حَــوْلِي يَـدُوْرُ وَلَمْ يَفْزَعْ بي المَلَلُ
أَشْكُو إِلَيْهَا وَمَا الشَّكْوَى بِمَثْلَبَةٍ
شَكْوَاي شَكْوَى حَبِيْبٍ شَكَّهُ الغَزَلُ
حَدَيْتُ رُوْحِي لَهَا وَالقَلْبُ رَوْضَتُهَا
حَتَّى تَلَاشَيْـتُ فِيْـهَا وَهْيَ تَـرْتَحِلُ
خَـلْفِي وَقُدَّامِيَ الدُّنْيَا بِمَا وَسِعَتْ
وَمَا اِرْتَأَيْتُ سِوَى في حُبِّهَا أَعْتَزِلُ
بَغْدَادُ طَيْبٌ عَلى الكَرْخَيْنِ يَنْهَمِرُ
كَالمَاءِ فَـوْقَ شِفَاهِي طَعْـمُهُ عَسَلُ
بَاتَ الحَنِيْنُ لَـهَا جُـرْحًا يُـؤَنِّبُنِي
أَدْرَى بِجِسْمِي نَحِيْلًا وَهْوَ لِي أَمَلُ
دَارَتْ بِهَا الأَرْضُ شُؤْمٌ في مَسَالِكِهَا
يَكَادُ فِيْهَا رَحِيْقُ المُوْتِ يَشْتَعِلُ
لا شِيءَ يَحْبُو عَلى أَحْضَانِهَا زَمَـنًا
إلَّا وَعَـانَقَـهُ فـي حُـزْنِهِ الأَجَـلُ
دَاعَبْتُهَا وَهْيَ في العِشْرِيْنَ تَسْبُقُنِي
الى عِنَاقٍ غَفَتْ فـي ظِلِّهِ القُبَلُ
أَوْغَلْتُ فـي حُبِّهَا سَعْيًا وَمُعْتَمِرًا
حَتَّى صَفَا الحُزْنُ مَاءًا فِيْهِ أَغْتَسِلُ
مَا فَـزَّ قَلْـبِي بِلَيْلٍ صَـامِتٍ جَـلِدٍ
إلَّا لِصَوْتٍ لَـهَا مَـا مَسـَّهُ بَلَـلُ
كَانَتْ تُسَـامِرُنِي وَالقَـلبُ مُنْشَغِلٌ
فِيْهَا يُدَارِي خُطَاهَا وَهْـيَ تَنْتَقِلُ
بَيْنَ الجَوَارِحِ تَسْرِي وَهْـيَ عَارِفَةٌ
شُوْقِي إِلَـيْهَا وَفـي أَفْيَائِـهَا ثَمِلُ
هَامَ الفُؤَادُ بِــهَا غَضًّا وَمَا بَرِحَتْ
عَيْنَايَ مِنْ شُوْقِهَا ضَاقَتْ بِهَا السُّبُلُ
شَقَقْتُ صَدْرِي لَهَا كي لا تُفَارِقُنِي
فَلَيْسَ أَفْضَلَ مِنْ صَدْرِي لَهَا نُزُلُ
خَبَّأْتُهَا تَحْتَ رِمْشِ العَيْنِ فَاِضْطَرَبَتْ
فـي المُقْلَتِيْنِ لَيَالٍ زَارَهَا الغَزَلُ
وَدَدْتُ أَنْ تَفْتِنَ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهَا
وَلَيْتَ شِعْرِي جَرَى مَا كَادَ يُحْتَمَلُ
كَانَتْ تُعَلِّمُنَا قَـوْلَ القَـصِيْدِ وِمَا
ضَاقَ القَصِيْدُ بِهَا يَوْمًا وَلا الجَدَلُ
فـي مُقْلَتِيْهَا عَرَفْتُ الحُبَّ وَطْأَتَهُ
أَنْ لا تُفَارِقْ وَإِنْ في الحُزْنِ تَنْجَدِلُ
الحُبُّ يَعْلُو شِغَافَ القَلْبِ يَحْرِسُهُ
وآفَةُ الصَّبِّ فِيْـهَا القُـوْلُ يَنْشَغِلُ
قَالـوا: ضَنَيْتَ وَمَا قَالـوا لِمُغْتَرِبٍ
فِيْـمَا البِعَادُ وَأَنْتَ الـصَّبُّ وَالثَّمِلُ
فَالحُبُّ لا يَقْطَـعُ الأَمْيَالَ لا يَلِجُ
إِلَّا بِقَلْبٍ رَسَا فـي الـوِدِّ يَرْتَجِلُ
مَا عُذْرُ مثلي على الأَيَّامِ إِنْ هَرَبَتْ
ثَكْلَى بِـهَا البُعْدُ هَـمٌّ ثَقْلَهُ جَبَلُ
لا تَأْسَفَنَّ عَلى الدُّنْيَا إِذَا ثَكُلَتْ
فِيْـهَا المَـحَبَّةُ والأَشْـوَاقُ والأَمَـلُ
يَا مَنْ وَهَبْتُ لَهَا رُوْحِي وَمَا مَلَكَتْ
غَيْرِي وإِنْ زَارَني في بُعْدِهَا الشَّلَلُ
فَالعُمْرُ تَقْطَعُهُ الآهاتُ إِنْ كَبُرَتْ
فِيْــهَا الفَـوَاجِعُ والآلَامُ وَالعِـلَلُ
وَالعُمْرُ دُوْنَكَ فـي الـدُّنْيَا تُقَلِّبُهُ
أَقْوَالُ مَنْ أَرْجَفُوا في الدِّيْنِ يَا جَبَلُ
مَـا لِلْـمَحَبَّةِ أَتْـرَابٌ تُعَانِقُـهُمْ
إِلا وَكُنْتَ لَـهُمْ نَجْمًا بِـهِ اِكْتَمَلُوا
أَنْتَ الـمُعِزُّ وَأَنْتَ الـعِزُّ يَا أَمَـلُ
فِيْـكَ الثُّرِيَّا تُطِـيْلُ اللَّيْلَ تَبْتَـهِلُ
زَارَتْ مَنَاقِبَـكَ الأَيَّــامُ رَاجِـفَةً
كَشَارِبِ الخَمْرِ في الأَشْجَانِ يَغْتَسِلُ
مَـا ضَرَّهُ إِنْ سَقَاهُ الـمُوْتُ رَجْفَتَهُ
فَـهْوَ الغَنِيُّ وَفـي أَتْرَاحِـهِ خَـجِلُ
مَا كَانَ حُزْنِي على الأَيَّامِ إِنْ رَحَلَتْ
حَمْقَاءَ يَلْهُو بِـهَا الكَذَابُ وَالخَـوَلُ
تَلْكَ النَّوَائِبُ في أَعْمَارِنَا وَطَـدَتْ
وَمَا اِسْتَطَابَتْ لَنَا في ظِلِّهَا المِلَلُ
نَحْنُ النُّجُوْمَ نَسُوْقُ الغَيْمَ في دَعَةٍ
وَيَسْتَفِيْـضُ عـلى أَفْـوَاهِنَا الأَمَـلُ
كَيْفَ التَّخَلُصُ مِنْ وَهْمٍ بِهِ عَلِقَتْ
نَفْسٌ بِهَا اللَّيْلُ طُوْلَ اللَّيْلِ يَحْتَفِلُ
وَالحُبُّ يَطْرُقُ أَبْوَابي عـلى مَـلَلٍ
فِيْـهِ تَـجَلَّى عـلى أَتْـرَابِهِ زُحَـلُ
وَالحُبُّ دَارٌ بِهَا الأَشْوَاقُ قَدْ جُمِعَتْ
فِيْـهَا اللَّـذَائِذُ والأَتْـرَاحُ وَالجَـذَلُ
وَالقَلْبُ مِنِّي يَفُرُّ اليَوْمَ فـي عَجَلٍ
كَالبَرْقِ فِيْهِ دَوِيُّ الصَّوْتِ يُـخْتَزَلُ
وَالقَلْبُ مِنِّي الى بَغْـدَادَ يَسْـبُقُني
كَالسَّيْلِ يَأْنَفُ أَنْ تَشْقَى بِهِ السُّبُلُ
يَا لَيْتَ شِعْرِي على بَغْدَادَ وَا أَسَفِي
فَيْهَا جَنَا القَلْبُ هَمًّا لَيْسَ يُحْتَمَلُ
للهِ أَشْكُو اِنْكِسَارَاتي وَمَظْلَـمَتي
فَهْوَ العَـلِيْمُ بِمَا لا يَعْـلَمُ الأَجَـلُ
فَمَنْبَعُ الـوِدِّ مَـكْتُوْمٌ بِـهِ الأَمَـدُ
وَمَنْبَعُ الحُـزْنِ مَفْضُوْحٌ بِـهِ الثَّكِلُ
يَا قَلْبُ لَيْتَكَ مَا أَسْرَيْتَ في طَلَبٍ
مِنْـهَا فَفِيْهَا يَبِيْتُ أَلـهَمُ وَالـوَجَلُ
لَكِنَّ سَعْيَكَ مَشْكُورٌ وَإِنْ بَكِيَتْ
فـي الخَافِقَيْنِ دِيَـارٌ فِيْـكَ تَرْتَحِلُ
فَالحُزْنُ أَهْوَنُ مَا يُثْنِي بِـهِ القَدَرُ
وَالحُبُّ أَعْظَمُ مَا يُبْلَى بِـهِ الرَّجُلُ
فَـمَا التَّغَنِّي بِـجُرْحٍ فَـضَّ عِفَّـتَهُ
قَلْبٌ تَـجِفُّ بِــهِ الأَفْرَاحُ وَالمُقَلُ
يَا قَلْبُ لَيْتَكَ مَا أَحْبَبْتَ طَلْعَتَهَا
وَمَـا نَدَبْتَ عُيُونًا فِيْـكَ تَكْتَحِلُ
قَدْ عَلَّقَتْكَ وَسَـارَتْ دُوْنَ أُمْنِـيَةٍ
في أَنْ تَرَاهَا وَفِيْـهَا القَلْبُ يَشْتَعِلُ
اليَوْمَ تَذْكُرُ مَا عَانِيْتَ مِـنْ كَمَدٍ
هَـوْنَ المَسِيْرِ عـلى الآفَاقِ يَا جَمَلُ
كَابَدْتَ لَيْلًا أَطَـالَ الجُرْحُ مَوْضِعَهُ
ومَا تَمَلْمَلَ فِيْـكَ الـوِدُّ وَالأَمَـلُ
قَضَيْتَ عُمْرَكَ مَحْمُولَا عـلى شَجَنٍ
فِيْـهِ التَّـرَجِي عـلى أَبْوَابِـهَا غَـزَلُ
قَالـوا: صَبَأْتَ وَمَـا كَانَتْ بِصَابِئَةٍ
تِلْكَ الَّتِي في رِحَابِ القَلْبِ تَكْتَمِلُ
فَالنَّفْسُ تُطرِبُها الآهَاتُ إِنْ سَمِعَتْ
صَوْتَ الحَبِيْبِ وَمَا في صَوْتِهِ وَجَلُ
مَا لي أَرَاكَ حَزِيْنَ القَلْبِ مُنْكَسِرًا
والعَاشِقُـونَ بِمـَا هَامُـوا لَنَا مَـثَلُ
بَغْدَادُ تَبْـقَى عَـلى الأَيَّامِ كَلْكـَلَهَا
يَشْتَاقُهَا الصُّبْحُ في أَرْدَانِهَا خَضِلُ
تَمْشِـي الهُوَيْـنَةَ وَالأَيَّـامُ رَاكِـضَةً
في مَشْيِهَا كُلُّ جُرْحٍ فِيْكَ يَنْدَمِلُ
هَا هِي عَلى الأُفْقِ نَجْمٌ طَالِعُ بَشِمٌ
فِيْهَا الثُّرَيَّا يَـرَى ضَوْءً بِـهِ يَـصِلُ
أَيَّامُهَا البِيْضُ تَارِيْخٌ لِـمَنْ فَـطَنُوا
وَمَا النَّوَائِبُ إِنْ عَـادَتْ فَتَحْتَمِلُ
بَغْـدَادُ جَمْرٌ عَلى التَّارِيْخِ إِنْ عَلِمَتْ
أَبْنَاؤُهَا الغُرُّ في أَحْلَامِـهِمْ جَفَلُوا
بَغْـدَادُ رَوْضَـةُ أَحْـلَامِي وَكَعْـبَتُهَا
قِنْدِيْلُـهَا الفِكْرُ وَالابِدْاعُ والـغَزَلُ
وَاحَرَّ قَلْـبِي عَـلى بَغْـدَادَ يَا أَجَـلُ
فِيْـهَا بَدَأْنَا وَفِيْـهَا يُـخْـتَمُ الأَمَلُ
قَالوا: رَحَلْتَ فَلا دَارٌ ولا سَكَنٌ
وَلا دُمُوْعٌ عـلى الجـُدْرَانِ تَنْهَمِلُ
الدَّارُ قَدْ عَصَفَتْ رِيْحٌ بِهَا وَغَدَتْ
جُدْرَانُهَا فـي ثَنَايَا الضُّوْءِ تَنْسَدِلُ
حَتَّى النَّوَافِذُ فِيْهَا قَدْ غَدَتْ حَطَبًا
النـَّارُ تَـرْمِي بِـهَا جَمْـرًا فَـتَشْتَعِلُ
الدَّارُ في ضِيْقِهَا أَبْكَتْ وَمَا بَكِيَّتْ
فِيْهَا الأَسَاسَاتُ عِطْرٌ مِنْكَ يَنْتَقِلُ
الدَّار أَضْحَتْ لِجـَارٍ كُنْتَ تَحْسِبُهُ
خِـلًا خَلـِيْلًا لَـهُ أَوْفَيْتَ يَا جَبَلُ
لَمْ تُطْـرِقِ الـعِفَّةُ الشَّـمَّاءُ هَامَتَهُ
ولَمْ يُـبَالي بِـخِزٍّ فِـيْهِ يَـرْتَـجِلُ
حَتَّى الزَّوَايَا بِتَلكَ الدَّارِ قَدْ هُتِكَتْ
فِـيْ مَـنْ أَتَاهَا بِلَيْلٍ قَـادَهُ الـزَّلَلُ
الدَّارُ دَارُكَ هـــذِي طَـالَ فُـرْقَتُهَا
مَا مَاتَ حَـقٌّ بِـهِ الآهَاتُ تَنْصَقِلُ
شعر: مالك الواسطي – نابولي شتاء 2017