نصوص أدبية

الوسم

hamed fadilأأَنْتِ المبكرة أم أنا المتأخر؟ أراك أعددت من وسائد الريش متكأ، والقمت موقد النار بالغضا، وجلست في خيمة الحكايات تنتظرين. أشم رائحة القهوة، وأرى الدلال مترعة، فلا ألذ من قهوة في الصباح. بخار الدلال يسكرني، رنين الفناجين يطربني، بضعة منها تُعَدّلُ رأسي، وتمكنني من زمام الحكي. ولا تشغلي بالك بالحكايات، فالذي أمامك ساحر في حكايا الرمال، وما يزال بكمي الكثير. أتدرين كم سخر مني الذين عرفوا أني أقص عليك القصص، قالوا: (أجننت أيها الحكواتي؟) وقالوا: (أيعقل أن يسرد حكاياته على امرأة سَحَرَتْ المَلِكَ بالحكايات)  ثم قالوا: (يا للغرور أيحكي لسيدة الحكايات ويصدق أنها تسمعه!) أتصدقينني إذا قلت أني عذرت ثلة السذج أولئك ــ لماذا؟ ــ لأنهم ليسوا مثلي ومثلك. فكيف يتسنى لهم قراءة ما وراء  لياليك؟ أو فهم ما وراء صباحاتي! لا تقاطعينني أرجوك، أدري أن صاحب التاج ظل صاحياً ألف ليلة وليلة كي يسمعك .. لا تقسمي أنا على ثقة أنك كنت في كل ليلة تسبكين الحكاية، وتصوغينها بلسان عربي فصيح، لأني أنا هكذا ألمّ ما تناثر من شفاه الرواة، أصهره في بوتقة مخيلتي، أزيد عليه، أو أنقص منه، فكما تعرفين لا طعم لواقعة لا يضاف اليها  ملح الخيال. هكذا إذن أصوغ حكايتي  وآتيك كي أقصها في الصباح. أتضحكين .. أضحكي من حقك أن تضحكي. أضحكي حتى تدمع عيناك، لأني أنا الذي استحق أن تضحكي منه (كيف ينسى هذا الرجل أنني سيدة الحكايات فيضع نفسه موضع النَدِ مني!) أجزم أن هذا ما يدور برأسك الآن؟ لا تجيبي، لست ملزمة بالإجابة، قد تقولين وأنا أوافقك الرأي بأنا أتينا طريق الحكايات من اتجاهين مختلفين، امرأة راوية في البلاط، ورجل حكاء في البادية، أنت تقصين القصص على مَلِكٍ، وأنا أقص عليك القصص، وكُنْتِ إذا جَنّ ليل بغداد أسرجت مهرة الحكي فراحت تخب بك الى مدن بناها الخيال، أو تفردين أشرعة الحكي قاصدة جزر لم يفض بكارتها غير سندبادك الذي ما تلبث على البر إلا قليل .. وأني إذا أطَلّ صباح السماوة، وضعت (الشداد1) على ناقتي، وخليتها تسعى إليك لألقي حكايا الرمال على مسمعيك .. قومي معي، تعالي .. أفتحي في الصباح المبكر كتاب صحرائنا، وأقرئي كل هذي السطور التي وشمتها على الرمل أقدام أسلافنا، تجدين أن معظم أبطال حكاياتك كانوا هنا:

أَنت

والملك

والليلُ

والحكاياتُ

على موعدٍ

وَأَنا

وأنتِ

والصبحُ

والحكاياتُ

على موعدٍ

الليل ليلك وآه من الليل كم يُهَيجُ ما كان ساكناً في النهار.. والصبحُ صبحي ويا حبذا الصبح من مبهج. والليل يا عاشقة الليل غراب أسود يحط على جسد الصحراء، يخيم بجناحين خرافيين، فتخمد تحت خيمته كائنات، وتنهض تحت خيمته كائنات.. وفي الليل ينشط، الهمس، واللمس، والحلم، والذكريات، ويخبو الكلام. أظن وبعض الظن أثم بأنك كنت تقصين، بالهمس، باللمس، بالتنمل، بالارتعاش، لا بالكلام. ففي الليل يترجل العقل عن ناقته، ويخلّي زمامها للخيال، والليل هو الفارس الأسمر الذي تهيم به النساء: (ماذا تقولين؟)  إلاك أنت، نعم أشهد أنك امرأة، لكنك لست كباقي نساء، الملوك، السلاطين، القضاة، الولاة، الخلفاء، كما أنك لست من، السبايا،الخادمات، المحظيات، المستباحات، في بيوت الرايات .. أنت يا أميرة الحكايات نجمة اهتدى بها مَلِكٌ سرى بليل الحكايات، وأكاد أجزم أنك المرأة الوحيدة التي أَلجَمَتْ رجلاً بالحكي، وما كان يُلْجِمُهُ إلا الجسد. والصباح كما تعرفين كوفية بيضاء ناصعة تكلل رأس الصحراء . فأحكي ما أنت حاكية لتاج الدجى، واتركي لي غرة الصبح للحكي، فأنا كما ترينني ألآن واضح وضوح الصباح الذي يجىء متسربلا بالبياض فيلقي عليّ نصاعته. ينوّر عقلي وقلبي. فينثال لساني بالحكايات .. لا أريد أن أطيل عليك، أرى الشوق في مقلتيك، فانظري هذه الحكاية آتية بيضاء مثل غيمة في الربيع .. أستهلها بالقول : بلغني أيتها الراوية السعيدة، أن بدوية معمرة رشيدة، عاشت ببادية السماوة العتيدة، بدوية حكاءة كعينٍ نضاخةٍ لا تنهي حكايتها إلا لتنسج غيرها.. لنتخيلها معاً أغمضي عينيك أترينها؟ هناك قريباً .. هناك في الفَيْء بين الخيمة و (الرواك2). أنظري أترينها جالسة تحكي لأحفادها حكاية الوسم، والوسم إذا كنت لا تعرفين رمز يطبع بالكي على أفخاذ الإبل، ليشير الى مالكها، لكن وسم بدويتنا لم يكن على فخذ ناقة أو جمل، لقد كان يا سيدتي على فخذ ذئب .. نعم ذئب  ما لوجهك غار الدم منه، وما لك ترتعشين. لا تخافي أطمأني فلخيمة الحكايات لا تجئ الذئاب، هات يدك، قومي لننظم الى أحفاد تلك البدوية. أترينها؟ تلك العجوز المزنرة بأحفادها هي ذاكرة البادية، دعينا ننصت الى حكايتها.. ها لقد بدأت بالحكي: أتسمعيها وهي تقول:  كنت في صباي من النساء اللواتي يقال عن واحدتهن (هذه امرأة تساوي ألف رجل) لأني لم أكن أعرف الخوف، أو التردد، وكنت (الوضحة3) في الجَمالْ، (الروطة) في الاعتدال، الضبية في الدلال . وكان هنالك ذئب يراود أحلامي، في ليالي القيظ، أو في ليالي الصقيع .. حين تنضو البادية الثوب الأبيض، وتتسربل بالثوب الأسود، تهجع كائنات النهار، وتستيقظ كائنات الليل.. وفي الليل يجىء الى مطرحي ذلك الذئب الذي رأيته لأول حلم جرواً صغيراً يتدلى من فم أمه الذئبة الهاربة من بنادق الصيادين. رأيتها وهي منطلقة باتجاهي كحصاة مقلاع أطلقتها يَدٌ ماهرة.. كنت منها، أو كانت مني على بعد ظلي . لكنها حين أدركتها الرصاصة، ألقت بجروها إليّ، وتوقفت عن / الركض، القلق، اللهاث.. أتذكر أني كنت أبحث عن الكمأ، فتركت الكمأ، وحملت الجرو، وأسرعت مبتعدة عن الذئبة، المفتوحة الفم، الفاغرة الجرح، الجاحظة العينين،  الملقاة تحت سماء تحلق فيها النسور. حين وصلت الى خيمة أهلي، حَلَبْتُ شاة مرضعة، وقربت الحليب من فم الجرو فراح يلطع حتى إذا انتفخت بطنه تمدد في حضني ونام.. ذلك يا أحفادي ما كان من أمر الجرو في حلمي الأول..  أما ما كان يا سيدتي من أمره في بقية أحلامها، فقد ترعرع الجرو، ونما وصار ذئباً فتياً، فولع بها وولعت به، وصارت أذا هبط الليل فوق بيت الشَعَرِ، لا تطيق انتظاراً، فتأوي الى فراشها مبكرة. تفرش أجفانها للحلم فيأتيها ذئبها:  توقف ما دخلك أَنْتَ لِمَ لا تترك الجدة تكمل حكايتها؟!. الحق معك يا سيدتي ما لي أنا وحكايتها. ها هي تعاود الحكي فاستمعي: لعلكم تتسألون يا أحفادي عن ما كان من أمر ذئبي بعد أن نما وترعرع وكبر، اعلموا أنه صار إذا كلكل الليل يُهْرِعُ الى مطرحي، فأعد له في حضني متكأ. أحضنه وأقبله، فيلحس وجهي، أداعب ذيله الطويل، فيعض قصيبتي، أمرر كفي فوق فروه الناعم، فيطوقني بذراعيه. أجس عضلات فخذيه، وأمتع عيني بمرأى جسمه الرشيق، وكنت كلما نظرت الى عينيه، غض بطرفه، وتحاشى النظر في عيني، وحين نَمِلُ من اللعب، أحدثه عن اشتياقي إليه، أحدثه عن نهاري، ويحدثني عن نهاره، أحكي له عن البادية، وهو ليس غريباً على البادية، ولكنه لم يكن مثل  الذئاب التي يضج ليلها بالعواء، كان ذئباً ملكاً تاجه فرو رمادي جميل، وعباءته أفتح من لون تاجه بقليل، عرشه كان حضني، وصدري له متكأ، وكنت راويته التي تؤنسه، وتقص عليه القصص، حتى إذا حط طير النعاس على رأسه  ألقاه في حجري ونام كطفل برىء. فأطوقه بذراعي وأنام معه .. لأصحو على يوم جديد أحدث فيه  صويحباتي عن الذئب الذي لا يفارق أحلامي، وأنا أدري أنهن يحسدنني، لأني أملك ذئباَ لا تؤذيني أنيابه حتى وأن عضني، ولا يُكّشِرُ في وجهي وهو يبتسم، أو يخدشني بمخالبه وهو يطوقني، ولا يخيفني وهو يداعبني. بل كان يسحرني برشاقته وجماله، وكان حراً طليقاً .. مرة عرضت عليه سلسلة جميلة وحاولت أن أطوق بها عنقه، فأفلت مني، وغاب عني، وتركني لسبعة أحلام أتلظى كحبة قهوة في (المحماس4) . لكن فرحة صويحباتي وشماتتهن وأدت بالسرعة التي بها ولدت حين عاد إليّ ذئبي في ليلة بيضاء مقمرة، فعدت أحرق قلوبهن بحكاياتي عن ما نفعله أنا وذئبي .. لكنهن استطعن أخيراً أن يصبنني بما تبقى في كنانات أعينهن من سهام الحسد، ولأن السعادة  قصيرة مهما تطول. فقد وسوس لي ذلك الذي أخرج أمي من بيتها الأول، فألقاها من الزرقاء الى الغبراء، لتشقى في الصحراء جاهدة لإرضاء من في السماء، طامعة في العودة الى بيتها الأول .. قال لي ذلك الذي لا أحب أن أذكر أسمه بعد أن تجلى لي على هيئة شيخ كبير زاده الدهر حكمة ووقاراً: (يا أبنتي لِمَ لا توسمي ذئبك بوسم يُعْرَفُ به، ويميزه عن ذئاب الصحراء) ولأني صادقة بالفطرة صدقت كلام الشيخ الكاذب، وكنت أعرف أن ذئبي الذي رفض السلسلة لن يقبل الوسم الذي كنا نسم به الجِمال، لذا لجئت في آخر حلم مشؤوم الى إنهاك ذئبي باللعب حتى الإغماء، وبيد مرتعشة حملت الوسم المتوهج من كانون النار وأطفأته بفخذ الذئب .. قفز الذئب حتى سقف الحلم، وأطلق صرخة مدوية لم يسمعها أحد غيري، كشر في وجهي فرأيت أنيابه القاتلة، ومد يده لينوشني مخرجا مخالبه الفتاكة من أغمادها، لكنه تراجع عني حين أبصر في عيني سحابة من دموع، ولأول وآخر مرة خزرني بعينين من نار، وبضربة واحدة شطر خيمة الحلم الى نصفين، وأنسل منها ليبتلعه يَمُ الليل.. ذلك ما كان من أمر ذئبها بعد أن كوته بالوسم المتوهج . أما ما كان من أمرها بعد تلك الليلة التي هجرها فيها الذئب: (أعدتَ مرة أخرى الى التدخل في الحكاية، أعقل لسانك ودع الجدة تحكي)  معك حق يا سيدتي.. الحق معك، سألجم لساني وأصمت، ها هي الجدة تعاود الحكي فاستمعي: (لعلكم تتساءلون يا أحفادي عما كان من أمري بعد تلك الليلة التي هجرني فيها ذئبي. فاعلموا أني قوضت خيمة أحلامي، فشمتت بي صويحباتي. صار الليل عدوي، والحلم تحول الى طير نزر صعب الاصطياد.. كنت أدعو الله أن  يطيل النهار، وأتوسل بالشمس كي لا تغيب، وأخشى مجىء الظلام، فما لي وليل لا يخفق القلب فيه بانتظار الحبيب، وأكره وقت الرقاد، فلا طعم للنوم من غير حلم أرى فيه ذئبي.. عشت وثوب الأسى يسربلني، فما أتعس الليل من غير ذئب، ألاعبه ويلاعبني، أفترسه ويفترسني، وما أبرد مطرحي دون احتضان الفراء. ولأن الشوق يصيب الجسد بالاعتلال، والوجد يُغَوّرُ ماء الصِبا، فقد، جف عودي، شحب وجهي، نحل جسمي، واتهمني الناس بالجنون .. في الليالي السود (5) أسأل عن ذئبي الظلام، في الليالي البيض (6) أسال عنه القمر، أسأل الشمس عند الشروق وأسألها عند المغيب، أسائل البئر عند الاستسقاء، والعشب عند الرعي، والشجيرات عند جمع الحطب.. أطيل الجلوس طرفي النهار ساهمة أحدق بالأفق لعلي أرى ذئبي في حلم يقظة، آناء الليل اتوسل بكل حلم يمر عابر سبيل أن يحلَّ بجفي ويطيل المكوث، وبين خيبة حلم وأخرى، أتخيل أني أسمع خطوات ذئب بالجوار، فأهرع نحو مكحلتي، أكحل عينيّ، أوضب مطرحي، أهيئ نفسى لاستضافة ذئبي. لكن صورته تفلت من عيني، تحلق مثل قطاة مفزوعة لا تحط إلا لتطير، وينقضي ليلي بين انتظارٍ، وأملٍ، وخيبةٍ، حتى ترفل الشمس بثوب عرس، فتنقذني من شباك الخيال.. أنهض ضاربة في الصحراء، أقطعها طولاً وعرضاً لعلي أقع على أثر لذئبي، أرهقني الانتظار، أتعبني البحث، أعلَّني التفكير.. نصحني أهلي بترك حكاية الذئب، أرسلوني الى بيت عمي في فيضة بعيدة عن دياري. ووعدتهم بالشفاء من علة الذئب، ولكنني ويا للعجب حظيت بحلم في أول ليلة أنام بها في بيت عمي.. حلمت أني قصدت قلعة الذئاب التي لم تطأها قدم بشر قبلي، فوجدتها كما تخيلتها (كارة 7) عالية متسربلة بالغبرة، مسورة بالكهوف، تنتشر عليها الثغور، وتحدق منها عيون أوجار تطل على  أكوام من الرمل والحجارة أنبتتها الطبيعة مثل القبور، وأقول وبكل غرور لو أن أشجع مَنْ في الرجال كان هناك لأنهار من شدة الخوف.. تلك قلعة ناصبت العداء للزرع والماء، فلا ينبت فيها عشب، ولا ينبع منها ماء، ولا يحلق فوقها باز، ولا يحط طير عليها. قلعة موحشة مخيفة يعجز عن وصفها لسان أمهر الواصفين، ولولا الرياح التي تعول بتلك الثغور لقلت هو الموت حط على الأرض على شكل قلعة ..  ورحت بلا خوف أتسكع مكشوفة لعيون المغارات، كنت على ثقة أن كائنات الليل نائمة بتلك الكهوف، ولعل ذئبي كان نائما في واحدة من المغارات يحلم بي كما كنت أحلم به، لذا وقفت في الطريق التي تقود الرياح الى  تلك المغارات، لعل ذئبي يشم رائحتي التي افتقدها لزمن ليس قصير، فتوقظ فيه الحنين، وتنفخ جذوة الحب التي طمرت تحت رماد الجفاء .. وقد صدق ظني فسرعان ما رأيت ذئباً يترك مقيله وينحدر نحوي من أعالي الثغور، ركضت إليه مسرعة لاحتضانه وطيور الشوق تسبقني، فأسرع لاحتضاني، الله قلت ما أنبل ذئبي وما أكرمه، لقد نسي الآن أني قسوت عليه فسامحني، وها هو يقبل نحوي رشيقاً، والشوق إليّ يرفعه، فيكاد يطير من لهفته، سيحضنني كما كان يفعل، يضع كفيه على كتفي، يشم شعري، يلحس وجهي، يداعبني، ثم يعود معي الى خيمتي ..

الذئب

يسرع

يقترب

ينزل

نحوي

وأنا

أسرع

أقترب

أصعد

نحوه

وبيني وبينه شمرة عصا، المسافة تقصر ما بين حضني وحضنه .. ولكنني حين مددت يديّ إليه كي أحضنه لأطفئ نار شوقي إليه، سمعت إطلاق نار فَزَزْتُ من حلمي مرعوبة.. دخل أبن عمي الى خيمتي وبكل هدوء قال: عودي الى النوم أنه مجرد ذئب أرديناه.. في الصباح حين سحلوا جثة الذئب لرميها بعيداً، أبصرت الوسم على فخذه.

 

قصة

حامد فاضل

...................

هوامش

1- الشداد: سرج من الخشب يوضع على ظهر الناقة

2- الرواك : أو الرواق سياج يوضع حول الخيمة

3- الوضحة: الناقة البيضاء

4- المحماس: وعاء تحمص به حبات البن

5- الليالي السود :هي الليالي التي لا يبزغ فيها القمر

6- الليالي البيض: هي الليالي التي يبزغ فيها القمر

7- الكارة: المكان المرتفع في الصحراء

في نصوص اليوم