نصوص أدبية

خيبات تيريزا العاشقة

fayha alsamarai"الخيبة أن تبكي أكثر من مرّة على نفس الوجع"

تيريزا، أنت أكثر إمرأة خائبة في الوجود، تطبطبين على كتف خيباتك في كل مرة .. كيف سمحت لنفسك أن تتجاوبي معه بعد أن عرفت ان نساءً أخريات كنّ بين أحضانه، ربما قبل ليلة، أو ربما قبل ساعات .. انه "العود الأبدي" الذي يحكم حياتك ويكرر مشاهدها.

- خيبة؟؟ إي لك حلّي عن طيزه

تسخر صديقتها منها بابتسامة مشفقة، هل هذه المرة الأولى لمفاجأة كتلك، يا لكِ من فاقدة للذاكرة!!

عشق تيريزا لتوماس، يجعلها تغفل عمّا بدر منه من مؤشرات "خيانة" سابقة كما تؤكد صديقتها .. كم جعلها مغفّلة في سنين زواجهما الخمس! .. تصفح عنه في كل مرّة بعد أن تتمزق روحها وتهلك نفسها.

جاء توماس ظهراً من خفارته المسائية حسبما ادّعى، مرهقاً وعيناه تشيان بتعب وسهر .. أبلغ تيريزا بفتور عن رغبته في الاستلقاء قليلاً بسبب إجهاد عمل ليلة أمس .. أي عمل؟ تحسست شعر رأسه وهو مستلق على الكنبة، أنبأها ملمس خشونته بما كانت تخشاه، قرّبت أنفها وألصقته بجلدة رأسه، فأحسّت ان "في شعره رائحة فرج أمرأة أخرى".

تلوم نفسها في كل مرّة عندما تنام معه وحينما يبدي عجزاً معها .. قد لا يثيره أداءها في الفراش، قد تكون باردة نوعاً ما أو قليلة خبرة، ماذا ينقصها، ماذا يريد منها أن تكون ساعتها، متوحشة بذيئة، رومانسية رقيقة، جامحة متمنعة؟ هل يريدها كل تلك النساء، كيف تكون على غير طبيعتها، هل تفتعل ما يبغيه إرضاء لشهواته؟ .. تحاول جهدها أن تمنحه أقصى ما تستطيع، وأن تتجدد في كل مرّة دون جدوى.

أنصحك بالاختلاء بـ "كسميّات" نجيب سرور مع فنجان قهوة وتفادي قصائد سيلفيا بلاث .. لماذا لا يسألك هو عن تفاصيل تجعلك أنت بالذات في حالة نشوة تسعدك؟ أفيقي، لقد خدعك وجعل منك مغفلّة، يبدي لك زيف العاطفة إشفاقاً ومجاملة .. جعلك "فضلة" على مائدة نزواته ومغامراته الحسية .. ماذا؟ لا تؤمنين بالامتلاك الجسدي؟ موتي في غيظك أنت والتعددية إذاً .. زوجك لديه الكثير من الجسد والقليل من الروح، نصفه الأرضي يتفوق على نصفه الأعلى، يحكمه الكثير من الأنانية، ربما يتفاخر الدون جوان بمغامراته أمام أصدقائه .. تحلّل صديقتها شخصية توماس.

حاولت تيريزا أن تقبل رأسه رغم قرفها من فكرة أنه كان داخل فرج امرأة أخرى، زادت من مداعبتها وكشفت عن ظهره لتدعكه وتخفف من تشجنات عضلاته، ولدهشتها، رأت على جلد كتفه الأيسر خدوش حمراء وخمس آثار لأظافر طويلة طريّة، كشفت عن كتفه الآخر لترى آثار مماثلة أقل حدة .. توقفت عن الدعك .. هل قام بالتحام جسدي ليلة أمس مع امرأة غيرها؟ تخيلت جسده مع تلك المرأة المجهولة ساخناً وعنيفاً الى حد الاحتدام والأذى، هل أسعدته بساديتها وشبقها؟ يا إلهي!! قطعاً أستمتع كلاهما بعلاقة حميمية صاخبة كما يهوى وكما تشاء غريزته .. تمنّت لو يبلغها عمن طارحته الغرام وجعلته يجهد ويعرق على هذا النحو، أنثى مشتهاة متمرسة بالتأكيد، لا تشبهها.

سرت في ذهنها مشاعر شبيهة بقاطرة تخلّف أبخرة قاتمة متسخة تخلّف غيظاً، غيرة، انكساراً، ذلاً، فشلاً، فقدان ثقة، خذلاناً، اشمئزازاً .. خليطاً بشعاً غير متجانس من إحباطات وخيبة .. تتذكر جيداً، هذا الشعور خامرها من قبل.

انتبهت تيريزا الى صرخاته وهي تدعك كتفيه بقوة، طلب منها أن تتوقف .. كان على وشك أن يغفو ويتركها وحدها في حالة أشد ما تكون فيها بحاجة اليه .. دون أن تمسحها، نزلت دمعة من عينيها، بل من روحها، كوى فمها طعم ناري مرير.

حاولي أن تعرفي تلك المرأة، تلحّ صديقتها، لا تقولي ما جدوى ذلك، ستعرفين على الأقل من هي.

اتصلت بجارة ثرثارة:

- نعم، فلانة موجودة بالدار لوحدها لان زوجها مسافر مع ابنته .. أظافر فلانة الثانية؟ نعم طويلة، أول أمس عملت مانكيير .. ألا تعلمين؟ فلانة الأخرى موجودة هنا، جاءت في زيارة قصيرة من الخارج، نعم، انها تسكن لوحدها .. لكن هل قرأت البوح الشعري على الفيسوك للأرملة فلانة، قريبة فلان؟ انها تحبّ .. ..

- شكراً يكفي ..

أي واحدة منهن هذه المرّة؟ هل هي السمراء الشبقة، أم البيضاء القصيرة، بل ربما الحنطية التي تحاول إنزال وزنها حالياً .. ولكن ماذا يهم من ذلك؟

كل مشاجرة بينهما كانت تدور حول شكوكها وتساؤلاتها عن موضوع غدره ومغامراته النسائية .. تجادله بهدوء، يثور غاضباً، يزعل منها، يقاطعها، لا يرغب في أي نقاش بخصوص أي منغصات، ما يؤرقها ويشقيها محض منغصات لديه، يعاقبها بصمته رغم علمه بأنها لا تطيق صدّه عنها .. يلجأ للهجوم كوسيلة للدفاع.

- اتركيني وشأني، لا تتدخلي في أموري الخاصة، كفّي عن جنونك وازعاجاتك.

يمنعها وفاؤها عن التماثل معه في أفعاله، وعشقها له يحول دون تلبية دعوات عيون ذكرية عديدة تلتهم وجهها وجسدها .. هل هي مغفلّة؟ طالما تحملت فراقه أثناء سفراته الطويلة وحلمت بلقاء باهر معه بعد فراق، وحينما يقترب موعد عودته، تدأب بهمة وفرح على نشاطات شتى لاستقباله، ترتّب الدار، تهيء الشموع، تقتني ما يحبه من مأكولات، تطبخ له، تنظّف جسدها، تعطره، تختار أجمل الملابس، تهيء أرق موسيقى، تبخل على نفسها لتشتري له ما يعجبه من هدايا .. تجهد جسدها وتفكيرها لإسعاده، تحلم أن تكون سعيدة معه حينما تراه يبتسم فقط.

على كتفه خدوش حمراء طرية لنشوة حارة مع أنثى أخرى .. كيف ستطفأ غيظها المستديم القديم؟ لا طاقة لها اليوم على احتمال ذلك.

خرج توماس الى عمله في المستشفى، قبّلها ببرود وطبطب على خدها، خيّل اليها ان عيونه تنضح بالإشفاق، ودّعته بذهول، فلم يلحظ ذلك كعادته.

أشعلت سيجارة كانت باقية من علبة نسيها، نفختها بعمق، لم تشعر بالهدوء .. فتحت الثلاجة، تناولت علبة نبيذ احتسها كلها .. غير ان لهيب نار في قلبها مافتئ يتقد ويتطاير بعنفوان .. التفتت حولها لترى علبة كحول ثقيل، شربتها دفعة واحدة بدون تفكير .. أخذت ترقب تأثير الكحول وقدرته على تخفيف احساسها بالألم، قربت جمرة السيجارة من يدها وشمت رائحة جلد يحترق، لم تؤلمها، كررت الكوي في مناطق شتى من يدها، غير ان حريقها الداخلي تغلب على آلام الحروق الجلدية .. هل بمقدرتها إطفائه وكيف؟ هل تنهي حياتها؟

واجمة وموجوعة، فتحت مخزن أدوات التنظيف والتقطت علبة أسفنيك .. في نفسها تعتمل غيرتها ووجعها وذكريات لقاءاتهما وفرحها وعشقها الخارق له .. ظلّت تحدّق في علبة الاسفيك .. فيها سائل سام سيخمد كل ذلك، كل ما هو معتم وما هو مضيء، كل شيء سيتحول الى سكون.

لو تنهي حياتها ستمحي ألمها وشعورها بالخيبة والمهانة .. ولكن ستنمحي هي أيضاً بما فيها من آلام وخيبات ومهانة .. هل سيتذكرها بعد ذلك وهو قصير الذاكرة والناسي أبداً لتفاصيل كبيرة وهامة في حياتهما، على عكس ذاكرة يقظة لها معه، تخزن أموراً مشتركة دقيقة غزيرة حتى منتهاها؟ .. هل ستتخلص من وجودها لتغيظه وتشعره بالذنب؟ هل سيندم حبيبها بعد أن تذهب، هل سيذرف دمعة واحدة وهو الشحيح في عواطفه، كيف لها أن تعلم بأنه سيتألم ويدرك بعد فوات الأوان بأنه أهملها وأذلها وتعمّد عدم احترامها، كيف ستعلم بذلك والى متى سيدوم حزنه عليها، يوم؟ يومان؟ .. الانتحار فكرة حمقاء.

بقيت تيريزا جاثية على الأرض طويلاً، قطع السكون صوت قرقرات معدتها، لم تكترث لجوع يعصر أمعائها، تغشيها أفكار مرتبكة ومكررة لا تتبلور في صيغ وحالة مقنعة تخفف قلقها وتشوشها .. يخال لها ان حالات مثل تلك مرّت عليها من قبل.

فجأة، روادتها فكرة جديدة نفذتها على الفور .. حملت سماعة الهاتف واتصلت برجل قال يوماً بانه يعشقها، طلبت منه بارتباك واضح أن يأتي الى دارها لأمر هام .. .ظلت تنتظر حتى سمعت دقات يده على باب الدار.

- مرحبا، اتفضل

دخل وفي عينيه شبق ذكوري واضح، جلس قبالتها وعينيه تتنقل بين وجهها وصدرها .. عدلّت من جلستها وتأكدت من إحكام أزار قميصها.

- شاي؟ قهوة؟

ارتبكت حينما همس لها بأنه يفضّل الجلوس هكذا أمامها ولا يشغله شيء عنها .. كيف يجرؤ على قول ذلك؟

وقفت فجأة بارتباك، طلبت منه أن يلقي نظرة على غسّالتها المعطلة حسب زعمها .. مرّ من أمامها وفاحت منه رائحة الرغبة، تنامى قرف في داخل نفسها، بان جليّاً على ملامحها .. بدون تردد، ركضت نحو الباب داعية الضيف الثقيل أن يتفضل بالخروج لأنها غيّرت رأيها الآن وستشتري غسالة جديدة.

جاء توماس متعباً منتفخ الأجفان، أبلغها بأنه مسافر في رحلة عمل، خرجت خلفه بهدوء .. قاد سيارته بسرعة ومضي دون أن يلتفت نحوها مودّعاً .. ظلت تحدق بالسيارة وهي تبتعد، نظرة طويلة كأنما هي الأخيرة، لا تدري لماذا كانت تعتقد بأن النظرة ذاتها سبق أن طافت بعينيها في وقت ما

 

فيحاء السامرائي

......................

(سيناريو حي على خلفية رواية "كائن لاتحتمل خفته" لميلان كونديرا).

 

في نصوص اليوم