نصوص أدبية

الصدفة والرسالة الغامضة

bakir sabatinفي بلد ما!! ورغم شهرته كصحفي متمرس إلا أنه كان لا يحسن المواجهة.. هذه المرة اختار أن يرسل لطليقته رسالة تهديد ووعيد إن هي نشرت أسراره التي أدت لطلاقهما، لا يريد منها أن تقول:

"زوجي سحيج مأجور ويُستغل من قبل السلطات لأنه جبان، ينافق الحكومة لأنه خائف".

كانت رسالته إليها شديدة اللهجة، لكنه لم يكن يدرك بأن فحوى هذه الرسالة سيجمعه مع الصدفة العجيبة التي ستغير قدره:

" طفح الكيل أيتها الفاسدة.. لن أستسلم لتهديداتك منذ اليوم.. سأكشر عن أنيابي وسترين بأنني صاحب الموقف الأقوى.. انتظري ردي ولو غيبت في عتمة السجون ما دمت تستهلكين صبري وتعتبرين ذلك ضعفاً مني..". وبالخطأ ذهبت الرسالة إلى البريد الإلكتروني لأحد المتنفذين في الدولة، والذي أصابته الدهشة، وهو المدرك لقوة هذا الكاتب الإعلامية علي صعيد العالم.. والأسئلة تتهامس في قرارة نفسه: " كيف يسمح لهذا المارد أن يصحو من غيبوبة الاستلاب.. الأمر جلل"

ماذا عليه أن يفعل! فقرر أن يعمم الرسالة بالتسلسل على كافة معارفه من المتنفذين في الأجهزة الأمنية.

وبعد أيام وصلت رسالة من رئيس الحكومة إلى وزير الثقافة تطلب منه تكريم هذا الكاتب المهم والابتعاد عنه بالتدريج حتى لا يحرج الحكومة في المنابر الإعلامية عبر العالم، نظراً لعلاقاته الواسعة مع الدول الكبرى.

وكانت التعليمات قد مررت إلى الأجهزة الأمنية منوهة إلى ضرورة توفير أقصى هامش من الحرية لهذا الكاتب الذي تحرر من سكرته، وترك المجال له للتنفيس من خلال الانخراط في العمل النقابي فأنيابه حادة.

لكن التوصية الأمنية المخيفة والتي تجمد الأطراف، وترعد القلوب، وتكمم العقول، فقد كان يقف وراءها غريم هذا المثقف والملمع في الوسط الثقافي جيداً، صاحب الابتسامة العريضة، والقيافة الراقية.. والعينين الدافئتين، مقدم البرنامج التلفزيوني النافد والهادف (كذا!!) في القناة (كذاأأ)والذي يعمل سراً مع الأجهزة الأمنية.. حيث تقترح هذه التصفية بتصفية الكاتب صاحب الرسالة التهديدية التي أربكت أصحاب القامات المديدة في الحكومة، من خلال ربطه بطريقة ما بالمنظمات الإرهابية وتشويه صورته أمام أصدقائه في العالم.

لم يشرح أحد من المسئولين على هذه التوصية ولكنها حفظت في الملف الاحتياطي تحت بند" سينظر بأمرها في الوقت المناسب.

فوجئ الكاتب بكل هذه التغيرات التي باغتته، وحينما علم بسر هذه التغييرات! استعاد هذا العملاق الدهشة التي ألجمها الخوف في أعماقه.. وشعر بأطرافه المكبلة تتحول إلى أجنحة.. وفقست بيضة الفينيق في قلبه الواجف.. ثم استعادت عيناه بريقهما الآفلان.. وتنسم عبير زهرة النور التي اغتسلت لتوها في بحيرة الشروق.. وراح يقلب أجمل الصور في ذاكرته الغارقة في ظلام الخوف.. وتحولت همساته إلى زوابع تأنف القيود.. وكان قلبه قد استقر على آخر صورة لزوجته وهي تنعته بالجبان، كانت حينها في سورة غضب جامح.. وقد خرجت من الانتخابات النقابية تجر أذيال الخيبة:

" أنت سبب فشلي أيها المأجور.. أخرج من حياتي.. لقد أحرجت موقفي أمام الناخبين ولم استطع إقناعهم بأنني أقف إلى جانب الحرية وحقوق الإنسان.. ليرد عليّ أحدهم بقسوة: كيف تدعين ذلك وزوجك يسلط نيرانه على الحريات ويؤازر الحكومة.. تقفين ضد التطبيع مع العدو وزوجك بالأمس القريب حل ضيفاً على السفارة الإسرائيلية!!"

ثم طلبت منه الطلاق وخرجت إلى غير رجعة. لم تصغي إلى رده حين قال:

" هل يواجه الكف مخرز الحكومة.. حتى كاتب مثلي يجب عليه أن يمشي "بجنب الحيط"!.

كان عبق القهوة يذكره بزوجته التي فرق بينهما الخوف لتجمعهما الصدفة من جديد، حينما يقترب النهر من زهرة التوليب ذات الكبرياء الشامخ فأنه سينسى جبروته ويختزن في ذاكرته صورتها كي تستلهم الأسماك الصغيرة من قوتها معنى الحرية.. الشجاعة فتواجه القرش المفترس دون خوف.. وقرر أن يكتب عن زهرة التوليت قصته مع الرسالة التي غيرت حياته..الآن ينقر هذا الكاتب الذي استعادت روحه المتمردة حريتها، بشاهد يده على كبسات الهاتف النقال والبهجة تجتاح مشاعره:" سأتصل بها".. لكنها لا ترد

" سأرسل لها رسالة على بريد هاتفها"..

وانتبه ضاحكا. فعليه قبل كل شيء أن يتأكد من العنوان جيداً حتى لا تذهب الرسالة إلى العنوان الخاطئ؛ فيتهم بأنه يغازل الحكومة فتعود به الدائرة إلى مربع (التسحيج) في عالم الرياء..

" نعم هذا هو اسمها.. هو بعينه".

وكتب لها:" حبيبتي.. أنا طوع أمرك يا أغلى الناس.. فقط ردي على الهاتف.. فلدي الكثير لأقوله... "

"هالو!!"

فابتسم قلبه.. وأضيئت حياته من جديد..

 

بقلم بكر السباتين..

قصة تحفيزية قصيرة

 

في نصوص اليوم