نصوص أدبية

بائِعُ القَلَق

anmar rahmatalla(لن أنام بعد اليوم ...) .. يحدِّث رب الأسرة نفسه وهو ينظر إلى المرآة. كانت عيناه غائرتين، ووجهه شاحب كوجه جندي عائد من معركة. تناديه الزوجة التي جهزت مائدة الفطور، يتبعها أولادها كما تتبع الشياه النعجة، تنادي مرة أخرى وتستغرب وقفة زوجها أمام المرآة. تجلس هي وأولادها منتظرة التحاق زوجها بالمائدة الصباحية.. ينظر الزوج طويلاً إلى أسرته، ثم يبدأ قلبه يخفق بشدة، ينزل الخفقان إلى أسفل سرته، تتعرّق جبهته، ويخرج الكلام من فمه متعثراً (حسناً أحبتي...سوف التحق بكم بعد قليل...أغسل وجهي أولاً). يغسل رب الأسرة وجهه، يحمل الماء بكفيه ويلقيه على بقايا الصابون العالق، تداهمه صورة من الحلم مجدداً ،يصرخ ...لم يكترث احد، لقد كانت صرخة عالية، هزت قلبه بشدة ...لم ينتبه لها أحد من أهله.

(لن أنام مجدداً...) يعلن رب الأسرة هذا في نفسه، ثم يلعن تلك اللحظة التي رأى فيها (بائع القلق) راجعاً بذاكرته (ما الذي خدعني وجعلني أشتري منه تلك الوصفة اللعينة؟ لقد كنت أعيش حياتي سالماً من دون رعب!! ماذا سأفعل لو استمرت الكوابيس في هجماتها الليلية على قلبي؟!. اللعين قال أن القلق الذي بحوزته هو قلق مفيد، قلق على مستقبل الأسرة، الأولاد، الزوجة، العلاقات العامة، الوظيفة، لقد اقسم لي أنه يبيع القلق المفيد الذي يحتاجه أغلب الناس، لقد كنت بحاجة إلى مثل هذا القلق، كنت بحاجة إلى أن أهرول صباحاً، بكل نشاط صوب متطلبات يومية يقلق أي إنسان حين لا تتحقق بشكل جيد. لكن الأمر تطور...صارت الكوابيس التي أراها كل ليلة كمسامير مغروسة في جمجمتي. ماذا أفسر فزعي مبللاً بعرق غزير، وصدري الذي يضرب ضربات قوية، حتى كأن قلبي يريد مغادرة القفص الصدري كطفل مرعوب. صرت أرى المدينة بالكامل يتساقط سكّانها، كابوس أرى فيه جارنا الطيب الوديع ،وقد تشوه وجهه ،عيناه تسيلان دماً ،وبقايا من اللحم المهروس تتساقط من بدنه، كان الجار يسير ويتمايل ولا يستطيع الوقوف، ويخرج من حنجرته صوت غريب، كصوت حيوان مفترس.. في كابوس آخر كان الموظفون في دائرتي الوظيفية مشوهين، كانوا كقطيع زومبي جائع يبحث عن فريسة، وكنتُ أنا فريستهم التي هرولوا وراءها، يطلقون أصواتاً مرعبة.. حلم آخر وآخر و آخر، حتى رأيتُ آخر كابوس في هذا الصباح، كانت زوجتي مشوهة الوجه، وعينها اليمنى مفقوعة تسيل دماً، ويداها ملوثتان. أولادي الصغار كانوا يتمايلون في المنزل، يصرخون بصوت مبحوح وهم مشوهون بالكامل، زومبيون، يتجهون دفعة واحدة صوب والدهم، يمسكونه من ركبتيه ثم يسقطونه على الأرض، ويبدؤون بقضم لحم فخذيه، ثم ينتقلون إلى بطنه، تكتفي الزوجة بشق صدري ثم تخرج كبدي وقلبي وأجزاء من رئتي. تستمر العائلة بأكل ربها حتى تشبع.. اللعنة عليك يا بائع القلق...سوف أعود إليه مجدداً لأرى حلاً لحالتي هذه. من الصعب إكمال حياتي بهذه الطريقة، فإما أن لا أنام وألتذ بطعم النعاس والكسل، وإما الشفاء من نوبة الفزع هذه. بالتأكيد أن الجرعة التي وصفها لي كانت مضاعفة، أو لعل القلق الذي باعني إياه كان مغشوشاً، لهذا سأعود إليه  وأنهي هذه المحنة). يعود رب الأسرة لبائع القلق في إحدى أزقة المدينة القديمة، يضع كفه على أنفه خشية أن تقتحم عفونة المكان أنفه. مترنحاً فوق صف ضيق من الأحجار المرصوفة في ماء خائس. يستدل على بيته من نقطة مميزة. ينقر على الباب متلفتاً خوف أن يلاحظه أحد. يفتح بائع القلق الباب مرحباً بضيفه، ثم يدخل رب الأسرة في صمت. (أريد دواء آخر... أريد إزالة مفعول القلق الذي حشوته في عقلي، لا أريد قلقك ) يقول رب الأسرة بصوت ليّن متهدج. يهزُّ بائع القلق رأسه موافقاً ، ويقول بصوت مبحوح:

 (لعلك تريد ترياقاً ضد القلق هذه المرة ؟).

 يهز رب الأسرة رأسه ويهتف بصوت أقوى: (نعم...نعم).

 يدخل بائع القلق إلى غرفة، يغيب دقائق ثم يأتي بزجاجة قائلاً:

(عجيب أمرك..! أنت الوحيد الذي شكا من القلق الذي أبيعه... على أية حال هذا الترياق، ستشعر معه بالتحسن). يأخذ رب الأسرة الدواء، ثم يهرول إلى المنزل، يشربه دفعة واحدة. يتوجه هذه المرة إلى النوم، لكي يجرب مفعول الدواء الجديد، ويرى إن كان كلام البائع حقيقاً أم كذباً، وهل ستختفي تلك الكوابيس من عقله ويخلد بهدوء؟. وبالفعل حين نام رب الأسرة رأى أحلاماً كأنه في جنة، لقد كان العالم ساحراً و يملأه الألق. الناس في الحلم يسيرون كأنهم ملائكة، والمدينة تزينها الأضواء والازهار والموسيقى. حتى أن زوجته وأولاده كانوا يطيرون في الجو كحمامات، يطلبون منه الطيران مثلهم. لقد نبت على ظهره جناحان أيضاً وصار يطير معهم محلقاً، يدور ويدور في السماء بلا تعب وخوف. في اليوم التالي ينهض رب الأسرة من نومه، يتمطّى على فراشه رافعاً يديه للأعلى، ثم ينهض مرتاحاً كأن جبلاً على ظهره قد زال. يضحك ضحكة مدوية ويذهب إلى الحمام لكي يغسل بقايا النعاس العالق بوجهه. يرتدي ملابسه، يتناول فطوره، يحمل حقيبته ويقرر الخروج إلى عمله. يخرج من المنزل مرسومة على وجهه ابتسامة، وهو يتذكر الحلم وأجواءه الساحرة العالقة في ذهنه. وجهه باسم على عكس قُطْعان البشر التي تملأ الشوارع، كانت عيونهم غائرة، ووجوههم شاحبة كوجوه جنود عائدين من معركة.

في نصوص اليوم