نصوص أدبية

فرسان الجوع

basma alshawaliيضرِبون شهوة الطّعام عرض الرّفض، تراودهم عن ضعفهم الفطريّ، تتغنّج في لمعة الملاعق واشتباك الشُّوكات والصّحون المتبرّجة.. تهيّج الأمعاء في البطون، الرّغبةَ في الأعين، الفتكَ في الفكوك، الماء بين دفّات الطّواحن، قشعريرةَ النّشوة تحت الجلد وعلى حوافّ المجاري المستنفرَة.. تنزاح اللّقمة الحافية عن لونها الفقير إلى وعد متخم بالرّغد فيضربون عنها، تنمل في دماغ الحاجة المستفحلة حشدا من سوس يقرض عصا الصّبر الأخيرة يتوكّأ عليها الجسد قبل انهياره الأخير، تُجنّ الطبيعة البشريّة، تهوج، تخمد، تموء كقطّة جريحة، تعوي كجرو وليد جوعان، تذِلّ.. ويضربون  يوما فيوما فيوما.. ثلاثون أيّاما مضربين، شهر صياما ولا عيد للفطر ووشوشة القبل على خدود الأحبّة وجباه الآباء.. صوم كأنّما دهرا يمتدّ لا تفلق عتمته ضحكة هلال ولا تؤثّثه خشخشة ورق الهدايا.. متى العيد يا أمّي..؟ ألا يولد هلال في السّجن حيث يسكنون؟ تولد الأحلام والأهلّة في السّجن كذلك يا ابنتي..

اختفت الدّمية التي أحببتها من واجهة المحلّ بالشّارع الذي خلفنا. سيأتون بغيرها وربما أجمل صحيح؟ بلى، حين يعود.. تبتر الجملة بتر أسى يخجل من كذبه. قد لا يعود.. وقد.. ما يزال الشّارع الخلفيّ نفسه يمتدّ طوليّا في ذاكرة الأمّ الشّابّة، والدّمية لا تفارق الواجهة البلوريّة للمحلّ الذي كان الوحيد في طفولتها يبيع العرائس والدّمى النّاطقة.. كانت ماء طفلة مهرّب في برّاد طبيّ من السّجن، لم تر والدها قطّ خارج القضبان، لم تختبر حضنه بما يكفي ولكنّها أحبّته كأب يعد دوما بالرّجوع وبالدّمية ثمّ إلى اليوم لم يأتِ.. قضى في إضراب للجوع ولم تفلح جهود المفاوضات في إغراء السجّان بإطلاق سراح بقاياه قبل أن تخمد.. قد.. يا ابنتي.. قد..

لكن.. متى العيد يا أخي في الجوع؟ سمعت أنّ إخوتنا في الخارج يفاوضون الأيّام لتقصّر نفسها فيخفّ الوطء علينا ريثما يرقّ قلب السجّان.. يُقال عقدوا موائد كثيرة مستديرة، مستطيلة مربعة بأطعمة خرافيّة ومشاريب عالميّة لذّة للمجتمعين على قضيّتنا.. يلقي السّؤالَ على عواهنه ولا يتبع تداعياته فيرى عمّن تقع. كان لفرط ما أكل جسمُه جسمَه يعجز أن يحوّل عينه عن وجه السّقف العائم في خيالاته.. منذ أيّام لم يعد يرى السّقف مزرعة معلّقة يقوق دجاجها بمستقبل المُحمّر ودوائر اللّيمون خلالخل في القوائم وشرائح الطماطم كخدود الحبيبة إذا تورّدت عشقا، ترتع حملانها لحم ظأن يعد بلذّة الشّواء وتطرح أرضها فاكهة لا معدودة ولا ممنوعة..

صبرا يا أخي فيه وابني في الأسر، عِدّة الأيّام هنا لا تمشي على خطى شمس ولا قمر.. هاهنا الشّمس والقمر والبوصلة.. ومدّ، في رجف الحمّى تجتاح الجسد الخاوي حتى من عروشه وسكّانها الأوائل، إصبعا ناحلا  ناصلا كسنّة رمح يدقّ الصّدر المبرّز فينتأ عظم القصّ أكثر وتنفر الأضلع عن حدّ الجلد الموغل في النّشف فيرى رفيقه في الصّوم الاحتجاجيّ سمْعا أو توشك أذنه ترى القلب ينبض في رهق وفتور لكنّه لا يقطع بصاحبه الطّريق، فيفعل السّائل ما فعل المجيب ويستمرّ مضربا عن طعام فقد كلّ إثارته ونضبت آخر قطرة من لعاب قد يسيل لصورة شعريّة عن طعام مثير للحياة أو مزحة عنه.. مضرب جارَ مضرب قريب مضرب ابن مضرب كانوا.. أمعاء خاوية تملأ قلوب الأشدّاء عليهم رعبا منهم فيلوّن إلى المنابر يتجمّلون بالكذب.. أجسادا شبعت جوعا حتى اشتعلت على هياكلها المُذواة نار الحياة تضيء دروب السّائرين في مفاوز الظّلمة وعابري سبل الوطن المنهوب زيتا في كوكب درّي يلتمع في زجاجة والزّجاجة مصباح معلّق بسقف الزّنزانة تتدلّى تارة تفّاحة وأطوارا سيور أكفان للرّحيل الشّهيّ يفوح من قدور عيد الفطر النّابت خارج حقول الشّمس والقمر وما يسطرون في التقارير الأمميّة، ويزدهي في أحلام أطفالهم بالدّمى والكسى وحكايا الآباء قبل النّوم عن فارس الجوع الذي لا يُقهر..

 

بسمة الشوالي - تونس

 

في نصوص اليوم