نصوص أدبية

وراء العازل الزجاجي

saleh alrazukانتبه أبو حدبة أن مرآة سيارته مسروقة. وقف أمامها يائسا، وتنهد بكل قوته. ماذا عليه أن يفعل الآن؟. كان في طريقه لسهرة عيد ميلاد، وتأخر بسبب عدم كيّ القميص. لا بد أنهم أشعلوا الشموع، ويستعدون للنفخ عليها، قبل الانتقال لتبادل الأحاديث أو اللعب بالبوكير.

جلس خلف المقود وشرد بلسان الطريق الذي أمامه.

لقد تدهور مستوى الحياة في هذه البلاد بعد الحرب. لم يعد لدى أبي حدبة ولع خاص بأي شيء. كان يزور تيراس القلعة باستمرار، وهناك يسرح بنظراته فوق المدينة، ويثلج صدره ما يراه من علامات التطور. يمكن أن تقول: الرخاء.

ربما هذا التعبير أنسب. لكن بعد الحرب، أصبحت المدينة مقسومة بالسكين لنصفين، واحد مفطور القلب، كئيب. والثاني متشح بالسواد، مدهون بغبار البارود أو آثار القذائف. ناهيك عن حروق المطاط لاستخلاص الوقود. كانت الأزمة امتحانا للإنسان على التحمل. غير الجوع هناك البرد. وللتدفئة خلع السكان الشبابيك والأبواب وأشعلوا بها النار، واستعاضوا عنها بملاءات رقيقة. أصبحت الحياة أشبه بلطخة عار.

أوف.

نفخ أبو حدبة من داخل جوفه المكلوم، وعزم على إخطار الشرطة. سيسجل المحضر بينما أفراد الشلة يتقاسمون التورتة. في حفلة العام السابق كان نصيبه قطعة عليها دموع شمعة. اعتقد أنه سكر محلّى، لكن ما أن عض بأسنانه حتى شعر بالطعم المر.

سيبلّغ، فالتهاون يسبب التمادي. كل شيء يقود لعكسه. هذه المرة سرقوا المرآة. وإن لم يتصرف قد يفقد كل السيارة.

إلا هذا. قال في سره. فهي هدية من المرحوم. تركها له بعد وفاته، وينظر إليها أبو حدبة على أنها ذكرى عزيزة، فقد حصل عليها أبوه من كد يمينه، لأن جده بلا ثروة. مات دون أن يترك لأبنائه أي قرش. كان إنسانا فقيرا، حمل في الجيش العثماني رتبة مساعد ضابط أو كيشك ضابط.

وخلال الانتداب عمل بصفة محاسب في الأوقاف. كانت مهمته تتلخص في تسجيل الحسابات على الدفاتر. ومن هنا نشأ لقبه، أبو حدبة، من طول الانحناء على السجلات.

ضغط أبو حدبة على زر التشغيل، وانتظر أن يدور المحرك، وفي هذه اللحظات شاهد ما تسبب له بمزيد من الكآبة، فقد رأى أحد الجيران يغادر من البناية ومعه منشار مسنون. بكل تأكيد هو يبحث عن شجرة ليقطع من أغصانها، وسوف يستعمل هذه الأطراف المبتورة بإشعال النار. لقد فقد الناس الإحساس ومشاعر الرحمة. لم يعد في صدورهم قلب أو عاطفة. أين ذهب وجدان أيام زمان؟. كيف نسمح لأنفسنا أن نغدر بالطبيعة؟. مهما قدمت لنا من هبات نحن نعتدي عليها. الإنسان في أوقات الحروب يصبح كسرب الجراد، ولا يوفر أي عرق أخضر.

كانت الأشجار تغطي هذه الحارة، وتحميها من العين. لكن انظروا ماذا لدينا الآن!.

نفوس مريضة وأنانية.

انطلقت السيارة وضغط أبو حدبة على زر رشاش المياه ليبلل العازل الزجاجي، ثم حرك المساحات ليجلوها من الغبار الذي جاء مع الخراب. لا يمكن أن تشاهد إنسانا لا تغطيه طبقة رقيقة من الغبار الناعم، كما لو أنهم دفنونا قبل الأوان.

وعند منعطف الشارع صدم جسما صلبا. يا ساتر. أفلتت منه هذه العبارة وهو يرتجف من الخوف. كان يوجد هنا عمود إنارة، ولكنه الآن قضيب من الحديد الأعمى، فالكهرباء لا تصل إليه من شهور. وفتح باب السيارة ليتأكد مما حصل، وقبل أن يتابع خاف من العواقب. لعل المصاب مات. لو حصل ذلك قد يلفقون له جناية، وربما يسجنونه مع اللص الذي سرق مرآته.

وبلع أبو حدبة الطعم المر مجددا، وهبطت في بلعومه لقمة وهمية غير طيبة. لا يمكن لأحد أن يورد نفسه موارد الهلاك. ثم ماذا يضمن له أن الضحية إنسان. ربما ضرب بسيارته كلبا أو قطة.

أغلق أبو حدبة الباب. الأجدى أن يتصل بالإسعاف من هاتف للعموم، وهم يحلون الإشكال. قال بلسان حاله. وارتاح ضميره لهذا الحل،  إنما  طوال الطريق كان ينغص عليه شيء واحد..

أن المرآة مسروقة، ولا يوجد شيء لينظر به إلى الخلف، ويتأكد ماذا ضرب بسيارته..

 

د. صالح الرزوق

 

في نصوص اليوم