نصوص أدبية

نزيف العمر

asharf akwraybiأمر عبر الشارع الضيق جدا، فأنحني للبيوت. وتنحني لي الجدران. في قريتنا الهزيلة . تحن قدمي للمس التراب الحصيف الذي أعرفه، والبنايات القديمة التي أشم ريحها من بعيد والنسوة ينظرن على الفتي الذي صار واحديا.غير مفهومة والنسوة يسألنني؟؟ دون جدوى!! وأجيب بالنفي يمصون شفاههن . ويلكن الكلام السريع وينظرن في نهم . أصوب عييني على الأرض التي لم تزل !!

"محمد – صلاح – هشام" كنا الثلاثة نسير بلا هدف، نعرف أن السنوات تمر والقادم مجهول رغم شعوري بوطأة السنين التي مرت، ورغم انقباضي التام في اللحظة ذاتها،

ولكني مشيت، أخوض غمار غيابهم الحميم المذهل وأنتظر أن أعرف عنهم شيئا، أنادي عليهم .. لا جدوى من اللغة العقيمة، أيها الأصدقاء القدامى القابعون بقاع ذاكرتي، والقابضون علي كل سكنة من سكنات روحي.

كان النهار يمشي حثيثاً فنتحسس المشي والكلمات في مراهقة السير. نداعب الملل والحكايات والحوارات والجدل المستمر وأقوال ماركس والفارابي وعشق الفتيات الصغيرات، حيث نمر في ممرات صغيرة – صغيرة وطأة ندعك صخب الحياة في جمل بسيطة التراكيب، مُعقدة الأحاسيس، مختلطة الشعور نسأل النسوة الجالسات عن أشياء تافهة حقاً .

ونمضي ضاحكين من الإجابات الساذجة

أين أنتم؟

اختفيتم وراء السفر المذهل وصفقات العمر المشبوه حتى النسوة المفترشات التراب الراميات عيونهن للمارين . يحدقن بنهم وريبة، ويتبادلن الحديث الخافت . ألا تزال اللحظات دائرية كما الجنون؟! ألم يتغير شيء ؟!لم يتغير!! لا السماء ولا الأرض ولا الناس... لقد كانت تجاعيدي خالصة وصافية . حيث أتخلص جزءاً، جزءاً . مما كنت أفكر فيه وأعود إليكم . يصبح الصباح شفيفاً كالنور . لأنه يعني النور والليل رائق كالنسيم رغم ظلمته الحادة، لقد قضيت زمناً وقتاً مضيئاً لعلني أصل إليكم . لكنكم لم تخرجوا عن كنه ذاكرتي المشتعلة بكم .

صار لدي كل هذا الهدوء الممكن كي أتحدث عنكم . أنا لم أجازف في أية لحظة بدهشتي. ولم أصب بفقدان للذاكرة .

لم أكن متوتراً ولا منزعجاً، حين اقترب القطار من المحطة وركبتم وتركتموني كنت أتأمل المرآة الواقفة بمفردها خلف أزيز القطار . وأنتم تثيرون الضحك اللذيذ الصاخب . وتقولون العبارات نفسها، كنت أحتمل جنوني دوماً، وصلت بالفعل لهذه الحالة من اللامبالاة والعجز وأسلمت جسدي للنهر. وعيناي للركض خلف كل شيء . أسلمت لساني للصمت وروحي لصلاة خافتة تشبه التعبد في محراب، يفقد سطوته وسلطانه علي احترامي له. وأنا أراكم وأعرفكم واحداً واحداً، وأحبكم فرداً فرداً . صلاح – محمد – هشام . قاومت وحدتي وملكوتي وحدي وانتظرت . لم يكن لدي وقت كاف لكي أشرح ما أعنيه، لست أدري لماذا؟ طال الليل وطال وغاب خلف جفني الساهرين في انتظاركم . خرج الفجر ككل يوم . وأنا في جلستي أتأمل السماوات التي بلا نجوم ولا شمس ولا قمر ولا كلمات ولا حوار ولا أي شيء. وتلال الرمال الصفراء في الصحاري المقفرة تناديكم . البيوت الباردة البيضاء والوجوه الشاحبة من الغربة والروح عارية من أية تفاصيل حتى ولو كانت مملة، كل ذلك ليس له مبرراً واحداً، ويفضي إلي لا شيء، يتوقف الزمن في ياقوت الحزن الشمعداني العجيب وتشتعل النار في الأشجار بلا سبب واضح وأرى ذلك بإنسان عيني، ألمح العصافير الخائفة ووجه السماء الملبد بالغيوم وهو ينحني في منحدر الأرض، والصحاري شاسعات ومسارات . أسال عنكم وأنادي، يرتعد الصوت مهزوماً، هل كان غيابكم وهمياً، حين تتلقفني يد التعب الجهمة، تلك اليد التي امتدت إلي لكي أعبر المساحة الكبيرة وأحتضن تراب وطن لا يلتصق بي ولا يترك أثره علي جسدي ولا أفرك عيني كي أخرجه، ويأسي متشنج وغضبي جامح، أو أري كل شيء . كانت اليد باردة كالثلج، وعميقة كالمحيط، وأنا مستسلم للتعب، مستسلم للغياب في أحضان الهزيمة . ظللت وقتاً كبيراً أمر علي صوركم وألثمها آلاف المرات، ظللت وقتا كبيرا أحاول. أنفقت كل ما لدي في التحدث إليكم وعنكم ولم يفلح شيء في إخراجي من مكنون صمتكم عني، ذلك الصمت الجارح المريب . ذلك المطمئن لتشعبه في خلاياي والمطمئن أكثر لانتظاري المستريب.كم هي اللحظات ثقيلة كالمجرة " وكالكفيل " يطلب أنواعا لا حصر لها من العمال والمال وضعني علي ذمته ولا يتكفل حتى بأن يسأل عني. كم مرة كنت أفكر في تسريب أي شعاع من الضوء إلي سقف ذاتي. هل كل شيء قد انتهي ؟؟ والرمال الصفراء في أبديتنا؟ ثمة شيء الآن يعتري فضولي في المعرفة. ثمة حيرة ما من التفاصيل التي حدثت والرجل يرفع السقالة لأعلي .

"يا باشمهندس" الارتفاع مضبوط؟

ووددت أن أقول له أنني لست مهندسا وأنني لا افهم فيما يفعل.. وأنني. ...........

"يا باشمهندس"

قلت أنه؟ الارتفاع مضبوط؟

سحبت يدي من أيديكم بصعوبة بالغة،

فردت الغطاء حتى نهاية وجهي مباشرة

وأطفأت بقايا الشمعة التي احترقت ورحت في نوم عميق،

أسألكم هل أنتم مستريحون في أماكنكم؟

 

اشرف الخريبي

 

 

في نصوص اليوم