نصوص أدبية
حضن الفايبر
واقفة قربي تترجى الشاب العامل في محل الموبايلات أن يعلمها كيف ترسل صورة الى قريبتها (بشرى – عمان) كما اسمتها، امرأة في السبعين من عمرها عراقية كما تبين من لفظها للكلمات ومخارج الحروف، لم يكن الشاب مهتماً لمطلبها وقد انشغل بزبائن اخرين مطالبهم مربحة اكثر.
التفت اليها و بادرتها بالسؤال: انت عراقية؟ رغم اني ادركت ذلك مقدماً من لهجتها البغدادية الواضحة .
قالت : نعم .. اخذت اعلمها كيف ترسل رسائل من برنامج الفايبر وكيف تفتح الكاليري وترسل الصور والمسجات الصوتية من هاتفها السامسونج كلاكسي نوت 3، الذي يشبه هاتفي تماماً .شكرتني ورحلت بعد ان اخبرتني انها هنا منذ سبعة اعوام ورفعت حاجبيها وكأنها تقول هكذا نحن !! ثم قالت : مشتاقة لولدي بعمان وكندا والسويد .
قلت لها: خالة الحمد لله اكو نت وفايبر وتتصلين بيهم بأي وقت .
عادت ورفعت حاجبيها بذات الاسلوب المستنكر وقالت : الحمد لله .
عدت الى البيت وصورة السيدة ظلت تلاحقني رأيتي فيها ورأيت امي ونساء كثر اعرفهم وسمعت عنهم، اشغل نفسي بأعمال البيت واعداد الطعام وتدريس الاولاد، لتوقظني رنة الفايبر في هاتفي وتجلب لي سعادة ان اكلم احداً من اصحابي واهلي .. كانت امي هي المتصلة تسأل عني وعن حال الاولاد في المدرسة .
قالت : حين يعودون من المدرسة اريد ان ارى محمد ورانيا ودانة على الكامرة سأطلب من زوجة اخيك مساعدني في ذلك امي لاتحسن استخدام اجهزة المحمول الذكية مثل تلك السيدة في محل الموبايلات تماماً .
وتشتاق لنا مثل شوق تلك السيدة لعائلتها المبعثرة في اركان العالم .
يظل الشتات مفهوماً غريباً لم استوعبه بعد، أحين نختاره؟ ام حين نجبر عليه يكون شتاتاً؟؟ ومنذ متى خيرنا؟ وماذا اخترنا ؟ نحن نلجأ دائماً الى الحلول التي لم نخترها بل فرضت علينا كلها وماكانت اختياراً حراً في يوم من الايام . لم اختر ان اكون هنا ولا ان افارق من احبهم . كل ما بيدي لي الان هو الاستلام والانسياب مع حكمة الحياة التي تقتضي الرضا بما توفر لي ولم يتوفر للاخرين . وان لا اتذمر ولا ابوح لاحد بأني استشعر غياباً كبيراً في روحي كل شيء غائب، العائلة الكبيرة، دفء البيوت الذكريات التي تشتعل عند لقائي بأصدقاء تجمعني بهم احداث ومواقف .
كنت احب البدايات الجديدة بدهشتها وانفتاحها على عالم مغاير وممتع في تفاصيلها غير المكتشفة،. لا ادري لماذا تغير مزاجي الان وصرت اشتاق للذكريات االحميمة التي تدفئ روحي بوهجها كلما وقفت على اعتابها، ربما اتقدم في السن وافقد حيوية اكتشاف الاشياء والمجازفة بمغادرة منطقة الامان التي الفتها . وهذا السبب الساذج اهون علي من ان اعترف لنفسي بأن جذوة الروح تظل تتدفق حين انارت اول مرة .
الفايبر يرن مرة اخرى اطير اليه بلهفة انه هو حبيبي وزوجي ارد عليه فتتغير نبرة صوتي دون ان اتعمد ذلك فتكون الـ (الو) رسول الف رغبة مؤجلة واشتياق لا سبيل اليه الاعبر تلك الشاشة المضيئة التي تسخن احياناً ربما استجابة لسخونة الشوق الذي يبث عبرها .. رغم اني اعرف ان جهازي يحتاج الى فرمته . اسأله متى ستأتي رغم أنه اخبرني موعد عودته وكتبه لي في الرسائل المتبادلة بيننا، اظل اسأل وكأني اقول له عد الان .. وهو يعلم ويظل يجيب على سؤالي المكرر . وحتى لا استمر في ضعفي الذي استشعره هو من نبرات صوتي طلب مني ان افتح كامرة الفايبر ليحدث الاولاد ويسلم عليهم، جلت في غرف المنزل حاملة الهاتف ليكلم اولادي اباهم .
هلو بابا شلونك اني زين بالمدرسة الحمد لله .
أتقلب على سرير الشتاء الاول الذي اقضبة واولادي وحدنا ليتسلل الوجع الى قلبي ويفتح الف نافذهٍ من ذاكرتي المشتعلة بينما يزحف البرد الى قدمي الباردتين لتذكرني بأن حضن الفايبر ليس دافئاً، مع زخات امطار الشتاء الغريب هذا، وان عتمةً في قلبي تزداد اتساعاً .
.