نصوص أدبية

طباخ الأكاديمية

saleh alrazukلم أحب عملي في الثكنة. فقد أوكلوا لي مهمة الإشراف على المطابخ. وهي غرفة تافهة، متر بمتر، وتعلوها طاقة لا تصلح حتى لزوج من الحمام. وكان معي المساعد أسعد. وهو أثقل مني بالوزن. لكن رأسه خفيف. لو فحصته بأشعة إكس لن تجد فيه غير أوهام وخرافات. وكان أسعد ينام في المطبخ. لديه فرشة ولحاف. وبعد نهاية وجبة العشاء يكنس أرض الغرفة ويمد فرشته ويستغرق بالنوم.

كنت أسأله: هل ترى البطاطا أم البندورة في منامك؟.

يرد وهو يضحك: الإثنين..

ويهتز كرشه المتكور أمامه. وإذا كان يقشر البصل تراه يذرف الدموع وهو يقهقه. ملهاة دامعة. مثل مآسي شكسبير. ولكن هل سمع أسعد بهذا الاسم؟. ربما لو قلت له الشيخ إسبر لفهم ماذا أعني. كانت أصول أسعد ريفية. وحينما تطوع لخدمة الجيش كان يحلم ببيت في المدينة. غرفة وصالة بين أكوام البيوت المترهلة في العشوائيات. كل ما يهمه أن تكون الجدران من الحجر، والباب من الخشب، وله جرس يرن. هذا كل شيء. المهم أن لا يكون من الطين. ولكن هذا الحلم لم يتحقق. والسبب خطيبته. فقد دفع المهر لأهلها بعد دورة الأغرار. وكانت قيمته يومذاك 20 ألف ليرة، على أن يشتري والدها خاتمين يوم السبت. حصل ذلك في مساء الخميس، بعد أن أقفلت دكاكين الصاغة أبوابها في السوق. ولم يكن بمقدوره أن يأتي إلا في هذا التوقيت.

سألته وهو يروي لي هذه الحكاية: ولماذا لم تطلب إجازة زفاف؟.

كان يلقي البندورة في ماء يغلي لتقشيرها. وسمعت صوت هبوط الثمار في الإناء. ثم نفض يديه المصبوغتين بلون الثمار كأنه جريح، وقلب طنجرة على قفاها في أرض المطبخ، وجلس عليها أمام بخار المياه. وقال: آخ. لا تذكرني.

تنهد و أردف إنه طلب الإجازة لكن المدير لم يوافق لأنه يومها نسي إضافة الملح للطعام.

وانفجرت من الضحك. هل تفسد الخطبة، ويتأجل تلبيس الخواتم من أجل وجلة غداء؟.

قال بمرارة: لماذا تضحك؟. هل تعلم أن المدير حبسني يومين مع طلب الزيادة؟.

وأصابني الوجوم. ما هذا؟. نحن هنا لا  نخدم العلم ولكن كرش المدير. وحل علينا صمت محرج. لقد حطمت ملعقة من الملح مستقبله. وها هو أمامي. يائس. مكسور القلب، لقد تأخر على أهل الخطيبة بسبب العقوبة. وفي تلك الفترة ظهر منافس له.

سباك.

ويصفه بطريقة تدعو للضحك. ولكن كنت أمسك نفسي حتى لا أزيد من ألمه. يقول عنه: إنه قصير، بقامة مربوعة، وكتفين أعرض من مؤخرة العميد مدير الأكاديمية. كان العميد مضرب المثل عنده. أي صفة سيئة في العالم يلقيها عليه.

وسألته عن مبلغ المهر. هل تصرف به؟..

فقال باستسلام: بل تركته هدية للعروسين.

قلت باستغراب: معقولة؟. تدفع سعر خاتم هذا الحرامي.

قال: عيب. أنا المساعد أسعد. تركته إكراما للخطيبة.

- وهل كنت تحبها؟؟.

سألته وأنا أحرك بالكافكير البندورة التي تسبح في مياه الإناء. كنا نطبخ في قدور نحاس أحمر، تتحمل الحراراة العالية، لو وضعتها في الفرن لا تتأثر بالأتون. فهي أصلا من النحاس المعالج بمطارق الحديد. وربما من نفس هذه المعادن تصنع راجمات الصواريخ.

ولم يرد. تنهد فقط. ولما طال صمته نظرت نحوه. كانت الطنجرة على قفاها وفي نفس المكان، لكنه ليس في مكانه. وعلمت أنه ذهب ليتبول. فهو لا يغادر هذا المطبخ إلى أي مكان.

يعد الطعام. ويجهز وجبة المدير ومائدة الضباط فقط. ولا يذهب إلا لدورات المياه. كانت فلسفته مختصرة جدا.. رجل بلا عائلة مثل فرج امرأة بلا كيلوت. والرجل العازب مثل العيب المكشوف لأن القرآن يعتبر المرأة لباسا للرجل. كان يرمي قشور البطاطا في علبة الزبالة، وهو يفسر هذه الآية بطريقته. ثم تحسر، وأخرج نفسا مكبوتا يضغط على قلبه.

كيف تسنى له أن يفكر بهذه الطريقة الميكانيكية؟. القرآن قال أيضا: جعلنا النساء سكنا لكم. لكن هل يمكن أن تحاسب إنسانا جريحا على أفكاره؟.

***

اشتكيت للمدير من طبيعة عملي. وطلبت نقلي إلى المكتبة. فأنا ضابط مثقف، ولا يصح أن أدفن نفسي مع ميت يكره نفسه. لكنه لم يكترث. ثم انفجرت الأزمة وحاصر المسلحون المدرسة، ونقلتني الوزارة لعمل باختصاصي. وهناك كنت أفكر بأسعد طوال الوقت. ترى كيف هي أحواله؟. وهل تصالح مع نفسه؟. أم أنه لا يزال يمقت هذه الحياة غير العادلة؟.

وفاتحت اللواء آمر القطاع بموضوعه. طبعا لم أذكر له أنه غير متوازن نفسيا. ولكن ألمحت لحاجتنا له. فهو موهوب بصيانة الرادارات.

- رادارات. وطباخ؟؟. زعق اللواء في وجهي.

قلت له: سيدي، هو خريج ثانوية صناعية.

قال بصوت كالنباح: ولماذا قبرناه في مطبخ؟.

وكانت هذه عادته. أي شيء يجري في العالم يعزوه لنفسه. لو انفجر بركان في مالطا يعتقد لأنه مكتئب.

قلت لنفسي: وأنى لي أن أعلم. هذه ترجمة لسياسة الرجل المناسب في المكان غير المناسب. ولكن لم أجرؤ على الكلام. كانت الظروف دقيقة. وأي خطأ قد يودي بحياتك. لذلك برمت شفتي، وأديت التحية العسكرية، وانصرفت.

***

بعد حوالي أسبوع أودعوني المنفردة لمدة 24 ساعة. وفي الجيش لا توجد اعتراضات. القانون يقول: نفذ ثم اعترض.

عميت عيناي من العتمة. ولكن الأقسى هو عمى القلب. لم يكن في رأسي أي سبب. هل أخطأت بحق أحد الضباط الأعلى بالرتبة. هل فرط لساني بكلمة أساؤوا تفسيرها. هل تطوع أولاد الحلال لتلفيق شيء على لساني ليتشفوا مني؟؟.  ولكن لم تكن لي عداوات. وبقيت أدور حول نفسي في هذه المتاهة من الظنون حتى صباح اليوم التالي. ثم استدعاني اللواء إلى مكتبه. دخلت من الباب الموارب. أديت التحية ووقفت أمام المكيف. كان الجهاز يتنفس برتابة. ولفحني تيار هواء بارد. ثم قاسني اللواء بنظراته، وقال: هل تعرف لماذا حبسناك أمس؟.

قلت بصوت مرتفع: كلا سيدي.

قال: بسبب صاحبك المساعد.

صمت لحظة، ثم أردف بضغينة وكره: انصراف.

أديت التحية أيضا وأنا بغاية الدهشة. ما هذا؟. ماذا فعل أسعد ليوغر قلبه علي؟.

***

في الإجازة ذهبت لأسأل عنه. وطوال الطريق غمرني الحنين لجو المطابخ. كنت أنا وأسعد متآخيين، وثالثنا صورة نيكول كيدمان. كانت تعجبه بوجهها الأبيض الرفيع وشعرها الذهبي.  وسألته في إحدى السهرات هل تشبه خطيبتك؟.

قال: كلا.

سألته: ولماذا اخترتها؟.

قال بجدية تامة: لأن فمها صغير.

واعترضت بقولي: يا رجل. الفم الصغير لأسماك الزينة وليس للنساء.

فرد أوتوماتيكيا: غشيم.

ثم أضاف: الفم الصغير يعني فرج صغير. فتحات المرأة كلها متساوية.

و لم أتمالك نفسي. انفجرت من الضحك. لهذا الرجل فلسفة غريبة حول الجنس الآخر. كيف عرف ذلك وهو لم يدخل دنيا حتى الآن؟.

كانت أيامنا في المطبخ حافلة بهذه المواقف الغريبة. وذات مرة انفجرت طنجرة الضغط بريستو، وصعدت اللحمة إلى السقف وعلقت به. لو كنتم معنا لعرفتم معنى أن تنفجر طنجرة تحت ضغط يصل لـ 200 باسكال. إذا كان وجهك أمامها سيسلق ضغط الهواء عظامك، وتصبح من مشوهي الحرب. تأثير بخار الطنجرة مثل رمانة يدوية.

***

كانت الأكاديمية تحت حراسة مشددة. بوضعية طوارئ واستنفار. وأمام الباب مدرعة تايغير، أحدث نوع من السيارات الروسية المصفحة. ومعها مدفع مموه بشبكة  وأغصان شوك. جو أفلام حرب. سألت عن أسعد. وكان في المحرس عريف من الدفعة الأخيرة فلم يعرفني. قال: الطباخ؟.. ولمعت سنه الذهبية في فمه.

قلت له: نعم.

قال: عقبال عندك. إجازة زواج.

معقول؟.

هل حصلت المعجزة؟.

ولكن لماذا المنفردة؟.

أسعد يجد لباسا له، حسب منطقه، وأنا يحجزونني خلف القضبان. دنيا ظالمة. أين العدالة؟. قلت لنفسي وأنا أقف تحت الشمس.

 

د. صالح الرزوق

 

 

في نصوص اليوم