نصوص أدبية

هنا سنبقى

alhusan bshodرأيتُها تحتضنُ طفلَها بحرارة، تُطْبِقُ عليه بذراعيْها وتَطمُرُه في حِجرها وهي تبكي.. تجتازُ كثبانا من الأنقاض، خرابٌ في كل مكان..، دُخان أسودُ يقتحم الأفق، لهيب يتلوى كرقصة كوبرى الملك..، لهيبٌ أخضر، لهيب أزرق، ولهيب بلون اللَّهب ..،

بعد نصف يوم؛ ويـوم ..

تتراءى حدبات الخيام المضروبة على سهل فسيح، مُنتظمةً كحبات الرُّمان، كحزام الرصاص، كصفوف المدرعات، كأشياء كثيرة !!

سياجٌ من أسلاك شائكة، خنادق صغيرة..، أكياسُ رمل..، قُبّعات زرق..، أعلام بيضاء ..، رايات مزركشة..، متاريس مرصوصة...، أسلاك شائكة..،

بِزَّات عسكرية، كالتي نراها على نشرة الأخبار في كل ليلة..

استوقفوها ..، فتشوها..، سألوها ..، نسخوا اسمها في ملفٍّ أزرق، وأعطوها قُصاصة ورق مقوى عليها رقم  1001!!

لَم تعد تشعر بيديْها لِفرطِ ما ضمَّتْ بهما صغيرَها، ضائعةً بين صُفوف الخيّام مدَّ البصر يمينا وشمالا.

تَسألُ فلا يُجيبها أحد، فقط هؤلاء الملتحفين بالأبيض والأحمر، ينظرون في قصاصة الورق..، ثم يُشيرون إليها بمواصلة السير ..

آخرُ خيمة جهة الشمال، ينبعثُ منها صراخ الأطفال وبكاء الرُّضَّع..، حَقنُوها، وسقوا ابنها قطراتٍ من اللقاح، ثم سمحوا لها بالولوج.

داخل الخيمة..، يتوقّف الزمن، تموت الألوان، وحدَهُ الهواء الثقيل المشبع بالغبار، يُحرك ما تدلى من أسمالٍ وخِرقٍ وأكياس.

جيش من البعوض، يُحْيي طقوسَه على أفواه الصغار  المشغورة، أعيُنهم دارت في محاجِرِها، فلا يُرى منها إلا البياض، رائحة المرض الممزوج بمواد التعقيم، تجثم على المكان، رائحة ثقيلة كثقل الغروب الكئيب...

 تُوَّدعُ الشمسُ ذلك الركن القصي من العالَم، هناك حيث اجتمعتْ المأساة بكل  تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ركنٌ منسيٌّ، ركن قصيٌّ، ركن مكتوبٌ في جبهتِه الشقاء إلى أجل غير مسمى، الكل ساكن..، وحدهُما الصمت والبكاء، يصولان ويجولان في ذلك الفضاء الرتيب.

...

الساعة التاسعة ليلا ..، على نشرة الأخبار، طابورٌ طويلٌ من المدرعات والمركبات  تسير جهة المعسكر

مكعبات صفوف الجيش، تتقاطع حيناً؛ وتتوازى حينا أخر، في استعراض عسكريّ.

جنائز مهيبة لقتلى الجيش في ميدان المعركة، طلقاتٌ مِدفعية في حفل التأبين، معزوفة السلام العسكري، وإكليل من الورود على قبر كلِّ جنديّ .

...

تفقدتْ الممرضة خيمة أُمِّ هُمام، حرارةُ الصغير عالية جدا، يسكن طويلا ثم ينط فجأة، حضرتْ ممرضة أخرى ومعها الطبيب ..، تبادلوا كلمات بلغة أجنبية، وحملوا الصغير معهم.

هَدَّأوا من روع الأم، وغابوا بين الخيام!

....

الثانية زوالاً ..، جيش من النساء ببدلاتٍ زرقاء كزرقة السماء، يَجرُرْن عربة أنيقة سلسة الانقياد، يقتحمن بها الخيام، الخيمة تلوى الخيمة، يوزعن وجبة الغداء؛ صحنُ مَرَقٍ، كسرة خبز، موزة وبرتقالة، وحبة مضادٍّ حيويٍّ ضد العدوى.

...

عند باب خيمةِ أم همام، توقف طاقم من الأطباء ومعَهم حارسان ببزاتٍ عسكرية وقبعات زرقاء، تداولوا الكلام بينهم، مزيج من العربية والإنجليزية، وسيل من الأرقام تتخلل ثغرات الحوار، استخلص الطبيب ورقة من مِلفِّهِ، ونفذ مع الممرضتيْن إلى الخيمة

وَقِّعِي هذه الورقة يا أمَّ همام، (قال الطبيب وهو يُعدّل وضع نظارتيْه).

ردَّتْ أمُّ همام بصوت مصعوق: أين ابني، أين هُمام؟؟

حملقتْ بوجهِهَا في الممرضتيْن تبحث عن جواب في عينيْهِما، وهي تبكي بحرقة  وتصرخ، مَزق صراخُها سكونَ الخيمة، ذُعِرَ الأطفال المرضى، إلتَأم صراخُها مع صراخِهِم، أضحتْ الخيمة كتلة من الأسى والحزن والعويل، حاولتْ بعض النساء ثَنْي أم همام عن التمرغ في الأرض، إحداهن كانت تعيد اللحاف كُلَّما سقط عن كاهل الأم المفجوعة في آخر أبنائِها

...

غادر الطبيب، دون أن يحظى بتوقيع من الأم المفجوعة المكلومة، أشعلَ سيجارة واختفى بين الخيام.

شطَّبوا الرقم من الملف، وأُعيدَتْ قصاصة الورق المرقمة (1001) إلى المشرفين على بوابة المخيم، ونُقلتْ أمُّ همام إلى جناح أخر ليس فيه حوامل ولا أطفالٌ رُضَّعٌ، ولا أطفالُ حضانةٍ ولا ......، ولا ..... ولا ....... ولا......،

 

الحسين بشوظ – من مجموعة "ظل في العتمة".

 

 

في نصوص اليوم